الموسيقا والفن التشكيلي: فضاء الروح ومرتع البصر

الملحق الثقافي-د. محمود شاهين:

تنضوي الموسيقا ضمن أسرة (الفنون الجميلة) التي تضم إلى جانبها كلاً من العمارة، والفنون التشكيليّة، والشعر، وبعض أنواع الرياضة. على هذا الأساس، تنحدر الموسيقا والفن التشكيلي من صلب أسرة واحدة، هي الفنون الجميلة التي بدأت تتوسع لتشمل أنواعاً جديدة من الفنون البصريّة والسمعيّة. ففي حين حافظ بعضها على خصوصيته كلغة تعبيريّة إبداعيّة تقليديّة، زاوج بعضها الآخر بين أكثر من وسيلة تعبير وخامة ومادة وآلة، بهدف التمايز، من جهة، والتقاط نبض العصر، والاستفادة القصوى من تقاناته الدائمة التطور والإضافة، من جهة أخرى.

ولأن التشكيل والموسيقا والشعر، من أقدم وأجمل وأرق اللغات التعبيريّة الراقيّة اللصيقة بوجدان الإنسان وروحه وأحاسيسه، وتتجاور حقولها بحكم انتسابها لأسرة واحدة، فقد تداخلت كماهية فيما بينها، بحيث بتنا نسمع اليوم، من يقول بموسيقا اللون، وشاعريّة المشهد، والخطوط والألوان المموسقة، والصور الشعريّة الملوّنة، وإيقاعات اللون والشكل، وشاعريّة اللمسة، وحداء الأزاميل، وقصائد من الحجر، وهمس الأشكال..إلخ.

بل لقد ذهب البعض للقول، بأن بعض الفنانين التشكيليين، يكتبون الشعر بالخطوط والألوان، أو يعزفون الموسيقا العذبة بتناوب الكتلة والفراغ والغائر والبارز في المنحوتة، وأن بعض الموسيقيين، يرسمون بالموسيقا، لوحات ساحرة مفعمة بالصور الجميلة، أو يكتبون قصائد موسيقيّة رقيقة تُقرأ بالبصيرة، وتُدرك بالإحساس.

في نفس الوقت، قام الفن التشكيلي، وعبر مراحله المختلفة، بمحاولة التوثيق والتأريخ، للموسيقا وأدواتها وأبرز أعلامها ومعالمها وملامحها العائدة إلى تاريخ متقدم في مسيرة الحضارة الإنسانية، وهو ما حاول جمعه والتوثيق له الكاتب الألماني (إيرش هينه) في كتابه (الموسيقا في الفن) الصادر عن دار نشر (سيمان) بمدينة (لايبزغ) عام 1965، حيث تتبع في هذا الكتاب، ملامح الموسيقا المختلفة، كما بدت في الرسوم الجداريّة واللوحات والتماثيل وقطع الخزف، بدءاً من منتصف الألفيّة الثانية قبل الميلاد، وحتى تاريخ إنجازه للكتاب، فقد وُجد لوح من الطين المشوي، يحمل صورة لعازفة على القيثارة وراقصة مع الدف في هذا التاريخ، ولوحة جداريّة مصريّة قديمة تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، تمثل فرقة موسيقيّة من النساء، ونحت نافر منفذ من الرخام لعازفة على الناي، تعود للعصر الإغريقي، ومجموعة رسوم على الأواني الخزفيّة تعود إلى نفس المرحلة، ولوحات جدارية منفذة بالألوان على الجدار مباشرةً أو بالفسيفساء تعود إلى (الايتروسك) والرومان، تمثل عازفتين على آلات موسيقيّة مختلفة، وتمثال مكسيكي يمثل قارع الطبل يعود إلى حوالي 300 إلى 1000 سنة قبل الميلاد، كما استعرض أبرز الأعمال الفنيّة التي تناولت مظاهر الموسيقا المختلفة في العصر المسيحي الأول، وعصر النهضة وما بعده.. وصولاً إلى الفن المعاصر.


من أشهر الفنانين الذين تناولوا موضوع الموسيقا في أعمالهم نذكر: كارافاجيو، جيرارد بتربروش، جيرارد دو، بينرو لانكه، والصيني سوزوكي هارنونو، وثمة منمنمة هنديّة تقود إلى الحقبة الإسلاميّة (حوالي القرن السابع عشر) تمثل حفلاً موسيقياً حاشداً لرجال بالعمائم تلاشوا مع الغناء والعزف ليصلوا إلى حالة من الصوفية الرفيعة، وتمثال هندي ملون يمثل عازفة على الناي وراقصة يعود إلى القرن التاسع عشر، وتمثال خزفي ملون للفنان يواخيم كاندلر يُرجح أنه منفذ ما بين عامي (1705ـ 1775) يمثل فرقة موسيقية، وآخر لنفس الفنان، يضم مجموعة من التماثيل الخزفيّة لفرقة موسيقيّة مع قائدها، أعطى ملامح وجوههم سمات بشريّة وحيوانيّة، ما منحها حساً كاريكاتيرياً طريفاً، كما استعرض الكتاب لوحات زيتيّة عديدة، لفنانين من مختلف الدول، وصولاً إلى لوحات لإدوار مانيه، وأوغست رودان، وفلاديمر جيروفيش ماكوفسكي، وهانس توما، وماكس كلينر، وروبريت ستريل، وتمثال للنحات رودولف بيلينغ، ولوحة للفنان ماكس بيشيتين، ومارك شاغال، وهنريش تسيل، وفرناند ليجه، وميتروفا كيريكوف، وكارل هانس جاكوب… وغيرهم الكثير، ممن جسدوا في أعمالهم مظاهر موسيقية مختلفة، كل بأسلوبه وطريقته.
نفس الشيء ينسحب على الفنون التشكيليّة والتطبيقيّة والحرفيّة السوريّة الموغلة في القِدم، حيث وثّقت اللقى الأثرية واللوحات والتماثيل والرسوم التزيينيّه التي طرزت أماكن بارزة في العمائر، أو وشت سطوح الأدوات الخزفيّة والمعدنيّة والخشبيّة والعاجيّة، وثّقت لمعالم وملامح الموسيقا الشرقيّة المختلفة، بدءاً من التمثال الشهير (أورنينا) الذي اكتشف في مملكة ماري والعائد إلى حوالي 4500 سنة قبل الميلاد. وأورنينا راقصة ومغنية دينيّة بمفاهيم وقوانين ذاك العصر الذي كانت فيه الموسيقا إحدى وسائل العبادة الهامة والشائعة في المعابد السوريّة القديمة، ما جعل لمغنية وراقصة المعبد، مكانة رفيعة ومقدسة، ولعل ما جاء في رقيم وجد في أرشيف ماري يعود إلى عام 1800 قبل الميلاد، خير دليل على الأهمية التي كان يوليها المجتمع السوري آنذاك للموسيقا. يشير الرقم إلى أن الملك (شمس حدد) أوعز لابنه بأن يلحق بابنة ملك ماري (ياهروم ليم) بمدرسة الموسيقا التابعة لقصره لتلقي الثقافة الموسيقيّة. كما حمل رقم من أوغاريت اكتشف عام 1948 أقدم نوتة موسيقيّة في العالم.


ومن الأعمال البارزة التي توثق للموسيقا، تمثال (المرأة تدق الدف) أو الآلهة السوريّة (عنات) وهو منفذ من العاج، يبلغ ارتفاعه 5,4 سم ويعود إلى القرنين 12 و13 قبل الميلاد، وينتمي للحضارة الأوغاريتيّة. وثمة تمثال آخر منفذ من الفخار يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد ارتفاعه 14,6 سم وعرضه 5,4 سم ويمثل موسيقيتين أو عازفتين. الأولى تستخدم الناي المزدوج (المجوز) الذي لا زال مستخدماً حتى الآن في غالبية الأرياف السوريّة، بينما تستخدم الثانية طبلاً محمولاً باليد. وثمة تمثال آخر يمثل عازفتي إيقاع يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وهذه الأعمال واللقى موجودة جميعها في متحف دمشق الوطني.
بعد ذلك، تعاقبت حضارات أخرى كثيرة على سوريّة، أولت هي الأخرى الموسيقا والغناء اهتماماً ملحوظاً، وصولاً إلى وقتنا الحالي، حيث قام مجموعة من الفنانين التشكيليين السوريين المعاصرين، بتناول موضوع الموسيقا والغناء في أعمالهم، منهم الفنان نذير نبعة، والفنان سعد يكن الذي نفذ مجموعة كبيرة من الرسوم واللوحات لشيوخ الطرب في حلب، لاسيّما (صبري مدلل) الذي وضع له أكثر من رسمة ولوحة، نذكر منها الدراسة المعبرة المنفذة بقلم الرصاص، لوجه صبري مدلل، ولوحة (صبري مدلل وفرقته) المنفذة بألوان الإكليريك، حيث نفذ أفراد الفرقة كافة بالخطوط (الرسم) والفنان مدلل بطقمه الأزرق، وطربوشه الأحمر بالألوان على خلفية غامقة، ولوحة (صبري مدلل ـ الموّال) حيث كرر فيها الشخصية على خلفية حاشدة بمساحات لونيّة متناغمة وشّاها بأطياف موسيقيين يعزفون على أكثر من آلة.
ومن اللوحات البارزة التي وضعها الفنان سعد يكن لموضوع الموسيقا والغناء نذكر لوحته (راقصة) و(المغني) و(جوقة موسيقيّة نسائيّة) و(المطربة) و(حفلة راقصة) و(طرب حلبي) و(شيوخ الطرب في حلب)… وغيرها، محاولاً بذلك التقاط روح الموسيقا والغناء وتجسيدها بالخطوط والألوان. كما قام الفنان (عبد المحسن خانجي) بتكريس أعمال معرض كامل لموضوع (المولويّة) دعاه (المولويّة بين الحركة والسكون)، وكذلك فعل الفنان (وليد كموش) و(علي حسين) و(زهير حضرموت) و(عمر حمدي) و(زهير حسيب) وغيرهم الكثير.
ومثل موضوعات رومانسيّة كثيرة، شكّلت الموضوع الأساس للفن الاستشراقي الأوروبي، لم تغب الموسيقا (لاسيّما المرتبطة بالمرأة) عن لوحات المستشرقين الذين أمعنوا خيالاتهم، في استحضار أجوائها في لوحاتهم، والتفنن في رسمها وتصويرها، ضمن مشاهد بصريّة عابقة بسحر الشرق وجمالياته التي تأتي المرأة في مقدمتها، وهو ما حاول الفنانون المستشرقون التأكيد عليه وإبرازه في هذه اللوحات، عندما ربطوا فيها بين المرأة العازفة والراقصة، في مجالس السلاطين والأمراء، الحافلة بالثياب المزركشة، والستائر والأرائك والحِرف والمشغولات التراثيّة العربيّة الفخمة المطرزة بالزخارف والتزاويق التي تنتمي للأرابيسك، أو للرقش العربي، والتي احتضنتها السجاجيد، والنجود، والبسط، والستائر، وأغطية الرأس والشالات، والحلي، وبلاطات القاشاني، والقناديل، وأوعيّة الشراب، وحتى الآلات الموسيقيّة.


فقد تكررت صورة الموسيقيات والراقصات، في أعمال المستشرقين، بأشكال ووضعيات مختلفة، ارتبطت باستعراض مفاتن الجسد الأنثوي، العاري تارة، واللابس تارة أخرى، وذلك استكمالاً للمشاهد المستوحاة من أجواء (ألف ليلة وليلة) ومعظمها جاء من نسج الخيال الغربي النهم لعالم الشرق المسكون بالأسرار، المفعم بالمباهج، الحاضن للجماليات الباذخة التي أسبغها هذا الخيال، على الموضوعات الاستشراقيّة التي عالجوها في الفن التشكيلي أو في الموسيقا أو في السينما أو في الأشعار والروايات.
الأمر نفسه، انسحب على المنمنمات الإسلاميّة التي جاءت من الهند وإيران وتركيا وباقي الدول الإسلاميّة المشرقيّة، حيث تفنن رساموها في رصد مشاهد الموسيقا والغناء، بين جنبات القصور الباذخة العمارة، المترفة بالتزاويق والزخارف والتزيينات التي طاولت العمارة، كما طاولت عناصر الأثاث، والبحيرات والفسقيّات الداخليّة، والحدائق الغناء، وقبل هذا وذاك، ثياب النساء والسجاجيد والأرائك وصناديق الحلي والمجوهرات.. الخ. كما رصدت بعض هذه المنمنمات، الحفلات الغنائيّة الموسيقيّة الخاصة بالرجال كالمولوية وبعض الطقوس المرتبطة بالدين.
ما يلفت الانتباه، في غالبية الأعمال الفنيّة التشكيليّة والتطبيقيّة، التي اتخذت من الموسيقا موضوعاً لها (سواء تلك التي جاءتنا من عصور ما قبل الميلاد، أو ما بعدها) تكرار نفس الأدوات والآلات المستخدمة في توليد الألحان، كالناي، والقيثارة والدف، وفيما بعده الأبواق وآلات النفخ المختلفة. ثم جاءت الآلات الوترية كالعود والبزق والكمان، ما يؤكد وحدتها لدى الشعوب والأمم كافة، وقدم الزمن الذي اهتدى فيه الإنسان، إلى هذه اللغة التعبيريّة الراقيّة المُطربة للأذان والأحاسيس، القادرة على إطلاق الروح، في فضاءات واسعة، تتوحد خلالها بالجمال غير المنظور، والمتع غير الماديّة، والنشوة العميقة المتواصلة مع العقل والقلب في آنٍ معاً، ناشدةً بذلك الراحة والهدوء والتجلي الذي بات يُشكّل حالة ضروريّة للإنسان، كي يغتسل من صدأ العادة والتعود، وضغط البحث المضني عن أسباب العيش، والاستمرار في الحياة.
فالإنسان بحاجة ماسة، من حين لآخر، لإطلاق روحه في فضاءات الفن المسموع والمُشاهد والمقروء، للتوازن روحاً ومادةً، وخلق حالة من الاستقرار يتزود خلالها بمبررات الاستمرار في الحياة التي باتت تحاصرها، أسوار القهر والعزلة والعنف واللهاث المضني، من أجل توفير وقود الحياة المادي الذي أصبح كثيراً ومتشعباً وصعب المنال، ومن هنا تحديداً، تتوالد حصارات الروح، وتتناسخ مخاوف القلب والعقل، على المستقبل ومنه، الأمر الذي يدفع بالإنسان، للهروب إلى أحضان الموسيقا، والتغلغل في رذاذها المنعش، والتحليق فوق أجنحتها لنسيان الواقع القائم، أو للالتصاق به أكثر!!

التاريخ: الثلاثاء 15-1-2019

رقم العدد : 16885

آخر الأخبار
"الشيباني" يستضيف "غراندي" في دمشق.. اتفاق على تعزيز آليات العودة الطوعية للسوريين "المركزي" يذكر بالتعميم 1831.. ويدعو المتعاملين للشكوى في حال عدم التزام المصارف "هالو ترست": سوريا أخطر دولة في العالم بسبب الذخائر غير المنفجرة تقرير أممي: " قسد " وداعش جنّدا مئات الأطفال السوريين في صفوفهما زيارة وزير الصحة إلى تركيا.. خطوة استراتيجية لإعادة تأهيل القطاع الطبي السماعيل لـ"الثورة":نظام استثمار المدن الصناعية الجديد يعكس التزام الحكومة بتحفيز بيئة الأعمال الشَّبكة السورية" تقدم رؤية لخطة وطنية مدعومة دولياً لعودة اللاجئين السوريين عون يدعو لتكثيف الجهود الأممية لمساعدة السوريين على العودة لوطنهم الكرملين: الحوار مع دمشق ضروري لضمان مصالح روسيا الصراع المفتوح مع إيران.. التحديات والفرص أمام سوريا الجديدة جفاف غير مسبوق يهدد الأمن الغذائي في سوريا وتحذيرات أممية من كارثة وشيكة قربي لـ"الثورة": تحديد موعد نهائي لصرف الرواتب ينظم الدورة المالية جلسات تشخيصية بحلب لتعزيز الاستثمار وتطوير القطاع السياحي فوضى أنيقة".. يجمع بين فوضى الحروف وتناغمها مباحثات تعاون وتطوير بين التعليم العالي وأذربيجان  محمية الفرنلق...حاضنة طبيعية للتنمية المستدامة وزارة الإعلام تتابع انتهاكاً بحق صحفي وتؤكد التزامها بحماية الحريات بحوث تطبيقية لمجابهة التغير المناخي وتعزيز الأمن الغذائي بين "الزراعة" و" أكساد"   مرسوم بتعيين طارق حسام الدين رئيساً لجامعة حمص القنيطرة.. خدمات صحة نفسية للطلاب وذويهم