الملحق الثقافي_إعداد_ رشا سلوم:
لا أحد يمكنه أن ينكر ما تركه العالم الأزرق على الحضارة والإبداع من أثر، كيف وإلى أين يتجه بنا، وماذا سيفعل في قادمات الأيام؟ أسئلة كثيرة كان المفكرون أول من طرحها وكذلك الشعراء. هذه جولة من حصاد الورق حول ما كتب وتم نقاشه بهذا الأمر. وربما يكون من المفيد أن نبدأ بما كتبه الناقد العراقي جودت هوشيار على موقعه، حيث تساءل عن مصير الكتابة اليدوية بعد ثورة الحاسوب، يقول هوشيار:
وسائل الاتصال الرقمية، أزاحت الكتابة اليدوية جانباً. وكل من يتعامل مع المعلومات ويستخدم هذه الوسائل في عمله أو حياته اليومية، لم يعد بحاجة إلى الكتابة اليدوية إلا نادرًا وعند الضرورة فقط، مثل كتابة المذكرات اليومية أو بضعة أسطر في دفتر الملاحظات أو التوقيع على مستند أو صك أو صورة أو كتابة هوامش وملاحظات على كتاب خلال قراءته، وهي عادة متأصلة عند العديد من المفكرين والكتّاب.
فقد حل الكومبيوتر محل الأوراق الرسمية في أعمال الحكومة، وفي كل مجالات الحياة تقريباً في العديد من المجتمعات الغربية المتقدمة، وثمة اليوم في الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية مؤسسات ودوائر رسمية ومنظمات غير حكومية، ومعاهد ومدارس لا يستخدم فيها القلم والورق للكتابة اليدوية على الإطلاق.
و لكن هل الكتابة اليدوية امر مهم حقاً في حياتنا؟
وهل هي ضرورية للبشر عموماً والمبدعين من الكتاب والشعراء والباحثين على وجه الخصوص؟
وهل يشكل اختفاؤها التدريجي ضياع نوع حميم من التواصل الإنساني عبر الرسائل المتبادلة بين الأقارب والأصدقاء والمعارف ولمتعة لا تعوض للمحبين، ولمعارف قد يطويها النسيان؟
ففي نهاية المطاف كل شيء يتغير في الحياة ويتطور بمضي الزمن. هل يتحسر أحد اليوم على اختفاء طرق الكتابة القديمة على ألواح الطين، وأوراق البردي، والجلود، والنقش على الصخور أو يتحسر على انتفاء الحاجة إلى الفاكس أو الأسطوانات الموسيقية؟
حقاً إن المهم هو المحتوى وليس الوسيلة، وما هو مكتوب باليد ليس سهلاً إرساله أو خزنه. وإضافة إلى ذلك فإن الكتابة اليدوية ليست سهلة. ولكن من المبكر اليوم، القول بأن الكتابة اليدوية في طريقها إلى الزوال.
صحيح أن الأجهزة الرقمية الحديثة تساعدنا على مواكبة العصر، وإنجاز الأعمال على نحو أسرع، ولكن الجري وراء السرعة يفقدنا بعض ما هو جميل ورائع في حياتنا!
يقول فنت كيرف في لقاء أجري معه على هامش أحد المؤتمرات: يتجه العالم الرقمي اليوم نحو تحويل الوثائق والموسيقا والملفات الطبية والصور والرسائل وعروض الفيديو، وغيرها، إلى صيغة رقمية، ولكن ماذا سيحدث لتلك الملفات لو توقفت الخدمات المسؤولة عن تخزينها مثل إقفال شبكة «إنستغرام» أو «فيسبوك» أو خدمة «دروب بوكس» بعد عقد أو عقدين، أو توقف دعم شركة المطورة لتطبيق قراءة وثائق «بي دي إف» وعدم التخلي عن حقوق ملكيته أو نص برمجته، مثلاً؟ مثال آخر على ذلك أن المراسلات الورقية التاريخية التي حدثت قبل 300 عام ستكون مرادفة لصيغة البريد الإلكتروني في يومنا هذا، وسيكون البحث عن تلك الرسائل الرقمية بعد 100 عام، مثلاً، أمراً بالغ الصعوبة بسبب اختلاف البرامج التي تقرأ تلك الرسائل، وحتى عدم وجودها في حال حدوث ثورة نوعية في طريقة معالجة البيانات وضرورة التخلي عن التقنيات الحالية لصالح أخرى أكثر تطوراً تقدم قدرات مهولة على المعالجة، لكنها غير متوافقة مع تقنيات القرن الـ21.
ويضيف قائلاً ومتحدثاً عن مرحلة زمنية قريبة ليست ببعيدة وهي من الذاكرة الإلكترونية: ولن يعطي استخدام الإنترنت اليوم لمعرفة الأحداث التي طبعت عام 1994، مثلاً، نتائج دقيقة أو مضمونة، نظراً لأن بيانات تلك الفترة قد اختفت من الشبكة. ودعا «كيرف» إلى حفظ تاريخ البشرية الرقمي في صيغة جديدة مع الاحتفاظ بأنظمة التشغيل الخاصة بذلك، بحيث تستطيع الأجيال المستقبلية الإطلاع على جميع البيانات بسهولة تامة، لكن هذا الأمر قد يوجد معضلة حماية حقوق الملكية لنظم التشغيل والبرامج التي يتم حفظها، وقد يدخل في صراع قانوني طويل جداً.
وتجدر الإشارة إلى أن الحضارات القديمة لم تعان من هذه المشاكل، لأن التاريخ المكتوب بالخط المسماري على ألواح طينية، أو على أوراق البردي، لا يحتاج إلا مجرد النظر إليه. إلا أنه لدراسة حضارتنا الحالية سيواجه علماء المستقبل وثائق «بي دي إف» وأخرى مكتوبة بنظام وورد ومئات من برامج الأرشفة الأخرى التي لا يمكن الاطلاع عليها إلا باستخدام برامج خاصة وفي بعض الأحيان أجهزة كومبيوتر خاصة.
والمشكلة قائمة بالفعل، ففي الثمانينيات كان من المعتاد الاحتفاظ بالوثائق على أقراص مرنة وتحميل ألعاب من أشرطة كاسيت على «سبكترم زد إكس» والاحتفاظ بألعاب الأتاري الإلكترونية على خرطوشات إلكترونية. وحتى إذا كانت الأقراص والكاسيتات في حالة جيدة، فإن معظم المعدات المطلوبة لتشغيلها موجودة في المتاحف.
إذاً نحن أمام المجهول، شعوب تفقد تاريخها وذاكرتها، بفعل الغباء الذي جعلها تضعه بين أيد ليست مؤتمنة على شيء، وبالتالي نحن أمام قطيع عالمي تقوده دولة العم سام، وهو زهايمر حقيقي ستكون الأجيال فيه مجرد دمى لا تعرف أين تذهب، ولا من أين تأتي، وسيكون البحث عن إنجاز من تاريخ أية أمة أو شعب رحلة عناء وتعب، تكون أمامها عملية فك الكتابة المسمارية نزهة في زورق.
وربما علينا أن ننبه إلى أن العالم كله يوثق إلكترونياً وورقياً إلا نحن المغرمين بالإنترنت وفضائه الذي استباحنا، فالكتب والصحف، وغيرها ما زالت هناك ورقية، ولا تشكل المواقع الإلكترونية أي مرجعية موثوقة أبداً، وسنبقى نكرر أنه حين أراد الرئيس بوتين مخاطبة الأميركيين لم يلجأ إلى محطة تلفزيون او موقع إلكتروني، لا بل إلى كتابة مقال في صحيفة أميركية، وكذلك فعل الرئيس الإيراني أحمدي نجاد.
إن الأميركيين والغرب حين يريدون حواراً مع أي مسؤول عالمي إنما يكون غالباً عبر الصحافة المكتوبة، فما بالنا نحن العرب وشعوب العالم الثالث ندفع بكل ما لنا او ما عندنا أو ما تبقى عندنا ليكون ذاكرة رماد يوماً، وأن يرمى في مهب المسح، فلسوف تدفع ثروتك حين تحول أدوات البحث عنه إلى اليات جديدة، تدفعها لتحصل على آلياتهم هذه، وبالتالي فأنت مستلب، وودائعك بكل ما فيها عند لصوص التاريخ والحضارة، وما أشبهنا ونحن نودعها عندهم بجحا حين عثر على كنز في الصحراء، فخبأه تحت ظل غيمة ريثما يعود ويأخذه. لسنا أبداً ضد الإنجازات العلمية والاستفادة منها، لكننا ننقل رأي من أنجزها وما يراه، ولعلنا ننتبه قليلاً، أن كل إنجاز علمي هو حقيقة في خدمة البشرية وحضارتها وإن كان يفعل الآن بوجه من وجوهه. ولن نتحدث عما يقوم به قراصنة الشبكة العنكبوتية في كل مكان فهو ليس إلا مزحة سمجة أمام ما هو قادم.
التاريخ: الاثنين12-2-2019
رقم العدد : 16907