هل تعرفونَ شعراً صادراً عن نفسٍ كارهةٍ للبشرِ وللكائناتِ الحيّةِ، عن روحٍ سوداء طافحة بالأنانيّةِ والشّرِ، والحقد على كل شيء، عاشَ وخلدَ ورددتهُ الناسُ عقوداً وقروناً، وما نضبَ ولا جفَّ؟ أنا لا أعرف، لكنني أعرفُ بالمقابل نصوصاً شعريّةً خَلَّدتها قوة الحبِّ الكامنة فيها، خلَّدتها عاطفةٌ نورانيّة أحبّت كل ما تسري فيهِ روح، كل مخلوقات وموجودات العالم، هذهِ الخاطرة عبرت في بالي البارحة وأنا أقرأُ قصيدة بدوي الجبل، التي مطلعها:
حَليَ النديُّ كرامةً للراحِ عجباً أتُسكِرُنا وأنت الصاحي
وهي قصيدةٌ شهيرةٌ كتبها في الذكرى الألفيّة لولادة المعري، ومع أنَّ أبياتها كلها دررٌ ولآلئ، لكن ثلاثة الأبيات الآتية هي التي استوقفتني وجعلتني أرددها أكثر من مرّة:
غسلَ الأسى قلبي وحسبك بالأسى من غاسلٍ حقدَ القلوبِ وماحِ
وودتُ حين هوى جناحُ حمامةٍ لو حلَّقتْ من خافقي بجناحِ
حُبٌّ قد انتظمَ الوجود بأسرهِ أسدُ الشرى وحمامةُ الأدواحِ
أيُّ طاقةِ حبٍّ مذهلة نحوَ الكون كلّه كانت تخفقُ بين جنبي الرجل حين تدفقت هذه الأبياتُ الخلّابة على لسانه، ويا لذاك الأسى الشفيف والعميق في الآن نفسه الذي غسلَ فؤاده، إنّها لحظةُ كشفٍ نورانيّة تتلبَّسُ نفساً كبيرة قادرة أن تستوعبَ في أعماقها الدنيا كلّها…أليست هذه اللحظة نفسها هي التي كانت وراء ولادة أبيات محيي الدين بن عربي الشيخ الأكبر (1165 – 1240 م ) المذهلة:
لقد صار قلبي قابلاً كُلَّ صورة فمرعىً لغزلان وديرٌ لرهبانِ
وبيتٌ لأوثان، وكعبةُ طائفٍ وألواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدين الحبِ أنّى توجهتْ ركائبُهُ فالحبُّ ديني وإيماني
إنَّ الحيرةَ لتأكل مهجةَ العارف منّا.. فبعد تلك الإنجازات المذهلة على صعيد الوعي الإنساني، منذ ابن عربي حتى محمد سليمان الأحمد نجدُ أنفسنا في هذهِ البئر السحيقة!!!
أمنَ المعقول بعد 800 سنة تقريباً من كلام ابن عربي النوراني نرسف في أغلال العتمة.. وقول ابن عربي السابق… ليس كلامَ فردٍ؛ بقدر ما هو اتجاه وتيار في الفكر العربي الإسلامي المتنور… اتجاه يدين بدين الحب فيقبَلُ كل الناس، كل الفرق والشيع والطوائف على ماهي عليهِ، يقبل حتى عبدةَ الأوثان.. وهاهو ذا ابن الفارض ( 1181- 1235 )م يؤكد الموقف ذاته في كل كتاباتهِ وأشعارهِ ولاسيّما تائيتهُ الشهيرة التي يعيد فيها الأديان جميعاً السماوية والأرضية إلى مصدرٍ واحد عندما يقول على لسان الذات العليا:
فما قصدوا غيري وإن كان قصدُهم سواي وإن لم يُظهرُوا عقدَ نيّةِ
رأوا ضوء نوري مرّةً فتوهّمو……. هُ ناراً فَضّلوا في الهدى بالأشعّةِ
ولا حاجة بي لتذكيركم بأبيات المعري التي تفيض غيريّة ومحبة للناس جميعاً رغم ما لاقاهُ منهم، أو بأبياتِهِ التي لا يرى فيها فرقاً بين المسيح ومحمّدٍ عليهما السلام:
لا تبدؤوني بالعـداوة منكُمُ فمسيحُكمْ عندي نظيرُ محمدِ
أيغيثُ ضوءُ الصبح ناظرَ مُدلج أم نحن أجمَعُ في ظلامٍ سرمدي
أليسَ الأحـرى بنا أن نتمثَّلَ هذا الإرث العظيم من أن يُكفّر أحدُنا الآخر!
إضاءات
د. ثائر زين الدين
التاريخ: الأحد 31-3-2019
رقم العدد : 16944