سأكتب عنه … عن وعيي الأول ..عن حبي الأول ..عن حلمي الأول ..
فتحت حقيبتي أخرجت ورقة و قلما ، و تناولت قطعة سكاكر …
و حضرت على الفور رائحة الحبق …
جدتي اعتادت ان تضع قصفة الحبق مع السكاكر في جيب الفستان ..
لشدة تعلقها بالحبق كنا نظن أنه لحق بها ماشيا من باحة دارها في ضيعتنا الصغيرة ، على تخوم الجولان الى بيتنا في دمشق .
يا جدتي الحبيبة كلما أردت الكتابة عنه تحضرين ؟! ..ربما لأنك كنت مسكونة بحلم العودة ..لم تطيقي الانتظار فآثرت العودة اليه بروحك ..اردت الرجوع ولو كطيف يجول بين سمائه و أرضه و شجره و حجارته ..
في الثمانينات كان هناك ما يشبه الحصار على بلدنا الجميل بتفاصيله ، الكبير في كبريائه ، الأصيل في تاريخه و عزته .
قوى الشر و الظلام دائما حريصة على محاربة هذا الشعب المقاوم المحافظ على سوريته و أصالته المتمسك بحقه في استرداد كل شبر اغتصب من أرض سورية الطبيعية ، أرض المحبة و الرسالات …
كانت معظم أماسينا بلا كهرباء ، لم تكن تكنولوجيا الأجهزة القابلة للشحن على تنوعها قد اقتحمت حياتنا بهذا الشكل الجارف.
و على ضوء الفانوس الهادئ الناعم كنا نتكئ على زهور الفستان المرسومة في فضاء أزرق نيلي، أشبه ما يكون بالسماء في ليلة مقمرة من ليالي ضيعتنا « عين فيت « لنصغي السمع بكل جوارحنا الطفولية الى قصصها عن يومياتها في قريتنا الواقعة على الحدود بين سورية و لبنان و فلسطين .
كنا صغارا و كانت الحكايات بتفاصيلها المثيرة تتحول الى صور و أحلام ، كانت بين الحين و الآخر تتنهد و تتحسر متحدثة عن أشيائها الحبيبة في تلك الدار المبنية من الحجر البازلتي الأسود ، و امام الدار في ليالي الصيف الحارة كانت تفوح رائحة التينة ذات اللون الأسود المائل الى الزرقة و صوت صرصار الليل يجتاز النافذة الخشبية ليعلن أن سهرته ستكون طويلة و حافلة، فالقمر بدر و الأرض رطبة و ثمة شاب صغير يدندن أغنياته المحببة على أوتار العود أمام طاولة خشبية تكومت عليها الكتب بصفحاتها السمراء السميكة ،تفوح منها رائحة الحبر و القصائد و التاريخ و الجغرافيا ..
و في زاوية الغرفة صندوق خشبي كبير مزين بالصدف ، في ذلك الصندوق فستان وحيد للمناسبات و منديل أبيض نظيف مكوي ، و « مملوك « هو من متممات اللباس عند المرأة الجولانية .
و في باحة الدار رائحة الحجر و هل للحجر رائحة ؟! كنا نسأل …
نعم للحجر عطر هو مزيج من رائحة الصخر في البرية مع المطر و عرق الجدود الذين تعبوا في تقطيعه و ترتيبه ليصبح بيتا .
وعلى أطرافها يصطف الحبق و في الوسط شجيرة ليمون هي قطعة من الروح ، كنت أسقيها و تركض الصيصان لترشف من مائها و تشكر الرب متنشقة رائحة أوراقها الغضة .
كان الخير كثيرا ، وأوعية الحليب ممتلئة و كنت أخبئ ثروتي الصغيرة و هي بضع ليرات من ثمن الحليب في قطعة قماش بيضاء أضعها في صندوقي الخشبي كي أجمع كلفة استئجار غرفة في مدينة القنيطرة ليدرس فيها أبوكم .
كم كان عمره يا جدتي ؟ اثنا عشر عاما ..
كان يحب العلم و يتأفف من الذهاب الى الحقول ، وحيد و مدلل … لكن كثيرا ما أسعدتني شهادة أستاذ الضيعة بذكائه و فطنته .. و كنت أقول فليكن ما يريد اذا كان من المجتهدين ..
كنا نضحك .. و كان يدخل أبي مخفيا ابتسامته و قليلا من الاحمرار في وجهه تعلوهما نظرة جدية ..حان الآن وقت النوم …
كم حلمت في تلك الليالي ، اننا عدنا الى هناك .. الى أرضنا ..الى بيتنا ، و أعطتني الجدة كل أشيائها الثمينة…
البيدر و البيت و الصندوق المصدّف و الكتب و العود و التينة الزرقاء و الليمونة و الحبق .
و الكثير الكثير حتى آخر حجر و ذرة تراب .
ميسون عيسى
الجمعة 5-4-2019
الرقم: 16949