هناك.. بعيداً عن نافذتك
حيث أنت تشرب القهوة الدافئة وتنظر إلى الطيور التي تحوم حول شرفتك
وتسمع فيروز وأخبار الصباح وتجري مكالماتك العديدة..
هناك.. بعيداً عن نافذتك جندي يفترش البراري والرصاص.. نام أو لم ينم أنت لا تدري.. لكن الذي يجب أن تعرفه هو أنه يحرسك كي تشرب قهوتك بسلام وتخرج إلى عملك وتعود بسلام.. هو لم يشرب شاياً ساخناً.
وربما لم يتذوق قهوة أمه منذ شهور.. ولعله لم يقبل يد والده إلا عبر هاتف قصير، موجز سريع (أنا منيح يا أبي) وإذ يقطع كلامه، وتسترسل أنت بالكلام يكون هو يدير حواراً مع الرصاص والموت والصبر والحياة.
وهناك.. بعيداً عن إفطارك الشهي وترنيمة آذان المغرب.. حيث تتناول الطعام ساخناً.. وتشرب العصير البارد وتتابع حلقات (خفة ظل سيف سبيعي وشكران مرتجى) وتسهر على المسلسلات الرمضانية التي لا يخلو بعضها من التفاهة والتسطيح والضحك على المشاهد.. يكون هذا الجندي سهران مع بندقيته بلا إفطار ليصون شرف الوطن وكرامته.. ربما لم يأكل منذ يومين ويحلم بوجبة ساخنة وماء ساخن ويرى في أحلام يقظته وجه أمه وأبيه ورفاقه ولمّة العائلة والأهل والخلان.. لكنه سرعان ما ينطلق إلى قلب النار فوقته الثمين لا يسمح له بالحلم بل بالعمل والفعل لتحرير الأرض والحفاظ على سورية الموحدة.. هكذا هو يفهم سورية.. وهذا هو هدفه.. ولهذا هو بعيد.. بعيد.
في البعيد أيضاً.. بينما أنت ترتدي القمصان الملونة وتضع العطر الجميل.. وتواعد الأصدقاء في مقهى أو مطعم أو تذهب إلى السوق وتشتري شراب السوس والتمر هندي.. يكون هناك جندي يرتدي التراب والوحل ويتعطر برائحة الشهادة والبارود في تحرير قلعة المضيق، وهناك، بينما أنت جالس بأمان، طفل جريح في محردة أو في ريف جبلة، سقطت عليه قذائف الغدر والخيانة.
وفي البعيد.. بينما أنت تقرأ جريدة أو تتصفح بريدك الإلكتروني.. تكون أم في آخر سورية.. في شرقها أو غربها.. جنوبها وشمالها قد سمعت للتو خبر استشهاد ابنها.. فتذوب من الحزن وتطلب من الله الصبر والسلوان كي تنطفئ النار التي في صدرها.
هناك في البعيد.. خلف بيتك وربما أمامه.. طفل يسأل لماذا تأخر والده.. وأم تحرس ثياب ابنها من الزمن.. وأب ينسخ صورة ابنه عشرات المرات ويعلقها في كل الزوايا وعلى الحيطان ظناً منه أن الصورة لا ترحل كما رحل الأحباب.
وفي البعيد الذي لا تراه ولا تقدر أن تتخيله وفي الوقت الذي تتغطى أنت وتنام على وسادة يفوح منها عطر النظافة، يكون جندي شاب يتغطى بالغبار وينام على وسادة من حجارة أو تراب أو يتكئ على ظهر رفيقه، وربما يضع يده تحت رأسه ويسهو لساعة لا أكثر، قد يستيقظ هذا الجندي ويكمل القتال.. وقد يغفو إلى الأبد في برية لم تخطر على بال أحد.. بينما أنت تئن وتشكو من الحياة ومآسيها والحرب اللعينة وآثارها.. وهذا معك الحق، كل الحق أن تتعب من تبعاتها.. ولكن لو تذكرت أنك ستعود مساء إلى بيتك وتشرب بهدوء شايك بينما الجندي الذي يبذل دمه في خطوط النار قد يعود وقد لا يعود ولو بعد ألف نهار.. فالمفترض أن تحييه وتشكره وتعظمه.. أيها الجيش السوري كلنا ننحني لقداستك يا أشرف الناس.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 15-5-2019
الرقم: 16978