لن أكتب عن ( حرير أسود ) روايتي ولا عن حرير الكلام أو حرير الشوق.. بل سأكتب عن الحرير السوري.. حرير القزّ الذي تنتجه دودة الحرير.. هذا الكائن الصغير الذي يتغذى على ورق التوت ويغلف نفسه بشرنقة بيضاء أو سكرية اللون كما لو أنها حبة لؤلؤ.. لكن هذه الحبة أو الشرنقة هي عبارة عن خيوط شفافة متينة ورقيقة. ما جعل السوريين القدماء يقدرون قيمتها ويعرفون أهميتها فيصنعون منها أفضل وأفخر الأنسجة الحريرية التي تباع بأسعار عالية وتصدر للعالم بأسعار باهظة.. وهذا جعل منها سلعة لا يقتنيها إلا الأغنياء.
وانطلاقا» من أهمية الحرير الطبيعي ( حرير القز ) وحفاظا» على هذه الثروة النادرة التي كانت إرثا» سوريا» بامتياز منذ القرن الأول للميلاد حيث كانت قوافل الحرير تعبر المدن السورية الهامة المتواجدة على طريق الحرير والتي أدت إلى صناعة الأقمشة الحريرية مثل ( الدامسكو والبروكار )الموشاة بالذهب والتي كان منها ثوب عرس «ملكة بريطانيا» .وإحياء وتجديدا» لهذه الثروة.. قامت هيئة البحوث الزراعية – وتحديدا» – مركز بحوث اللاذقية .بفتح مخابرها وتأمين مستلزمات البحث العلمي الدقيق على دودة الحرير لإجراء الأبحاث اللازمة بإشراف المختصين ومساعدي الباحثين في المركز لتجديد الاهتمام بهذه الدودة الذهبية وتطويرها وإنتاج سلالات جديدة منها بعد انقراض السلالات السورية المحلية التي كانت متأقلمة مع البيئة ومع الظروف المناخية السائدة – على حد قول الدكتورة المشرفة عطية عرب – ما أدى للبحث.عن سلالات تستطيع التأقلم مع الظروف الحالية وإعادة إنتاج الحرير والعمل على تطوير النوع والكم والجودة من خلال استنباط حشرة مؤهلة لذلك المهمة المميزة بحيث تعيد ألق الحرير السوري وصناعته التي كانت قد ازدهرت جدا» في القرن التاسع عشر وكان يعمل بها في مدينة حلب وحدها أكثر من ثلاثين ألف عامل.غير أن الظروف والمتغيرات الاقتصادية وانتشار الصناعات النسيجية الحديثة, إضافة إلى ندرة أشجار التوت في البلاد بعد استبدالها بأشجار مثمرة أخرى. كل ذلك أدى إلى انحسار تربية دودة الحرير وانقراض سلالات محلية هامة، وفقدان مصدر هام من مصادر الحرير الطبيعي التي كانت تفاخر به سورية وتلبسه النساء الريفيات في ساحل سورية على رؤوسهن متباهيات بلونه وجودته والتفنن في نسجه على أنوال يدوية خاصة.
إن الحرير السوري الذي تقوم هيئة البحوث الزراعية ( مشكورة ) على إحيائه من خلال العمل البحثي الجاد ومن خلال المتابعة وتأمين مستلزمات البحث العلمي لهذه التجارب التي تنبع من البيئة السورية ولأجل البيئة السورية ومع فريق العمل, ستثمر نتائج هامة تعيد إلى الذاكرة قصة الحرير السوري الذي اشتهرت به دمشق في عهد الخليفة الأموي – معاوية بن أبي سفيان – الذي أمر بإنشاء مصنع لنسج الحرير في دمشق, ثم انتشرت هذه الصناعة في حلب حيث كان فيها أكثر من ( اثني عشر ألف نول ) لحياكة الحرير الذي يصدر للعالم ويشتريه علية القوم .وهو مصنوع بأيد ماهرة على أنوال يدوية .
لقد تنبه الباحثون فجأة لهذه الحشرة الهامة التي مازالت بقايا تربيتها منتشرة في حيز بسيط من الساحل السوري حيث تقوم بعض الجدات بتربيتها والعناية بها لإنتاج خيوط الحرير ونسجها يدويا» لصناعة مناديل الحرير التي تميز اللباس التقليدي السوري والذي يعطي هوية تاريخية وحضارية للمكان , حيث أن اللباس جزء من الهوية كما اللهجة وكما الطعام .لذلك أنا أحرص باستمرار أن أحمل منديل الحرير الذي ورثته عن أمي إلى البلدان التي أزورها , فأرتديه في المؤتمرات والندوات الدولية والعربية ليدل على سوريتي كما يدل الثوب الفلسطيني على فلسطين. من هنا لا بد من تثمين دور البحوث العلمية في الحفاظ على تراثنا الزراعي من خلال البحث والتنقيب في الذاكرة الزراعية والنباتات المميزة والمتأقلمة مع البيئة السورية لتطويرها وتحسينها. ولقد سبق وعملت هيئة البحوث الزراعية على إحياء القمح الفرعوني الذي وجدت بذوره في مقابر الفراعنة. هاهي تعمل اليوم على أكثر من صعيد – وبالرغم من الظروف القاسية والحصار والحرب المدمرة.. لم يتوقف دور البحوث الزراعية في التطوير والتحديث والاستمرار في التحدي العلمي , لأن هذا الاستمرار هو استمرار للنضال والمجابهة عن طريق سلاح العلم والمعرفة والعمل الدؤوب لتجاوز الصعوبات والخرائب التي لحقت بالبحث العلمي وبمنشآته ومراكزه وأبحاثه على يد أعداء العلم وأعداء الإنسانية .
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 29-5-2019
الرقم: 16989