لم يستغرب المراقبون السلوك الأميركي الذي تلا إسقاط إيران طائرة الاستطلاع والتجسس الأميركية في المياه الإقليمية الإيرانية، ولم يكن مفاجئاً التراجع عن تنفيذ عدوان يمثل رداً على العمل الإيراني الذي يمرّغ أنف الجيش الأميركي والقوات الجوية بالتراب، من خلال إسقاط تلك الطائرة ذات المواصفات الفنية والتعبوية الكبيرة التي تفوق إمكانيات جميع طائرات الأواكس والمراقبة والاستطلاع التي عملت في خدمة الجيش الأميركي وقوات المارينز على مدى السنوات السابقة، فما الذي يجبر الإدارة الأميركية على التبرير والتراجع عن تنفيذ ضربة عكسية على أقل التقديرات؟
وهل اعتادت الولايات المتحدة الأميركية على السكوت عن عمل مثل الذي حدث؟
لا شك أن تهديدات ترامب بتوجيه ضربة لإيران كانت جادة ومتوقعة، ومن المؤكد أن ترامب كان يعتقد أنها الفرصة المناسبة لتأديب إيران بعد مرور أربعة عقود على خروجها من تحت المظلة الأميركية، وهو كان يأمل ذلك تحت تأثير وزير خارجيته بومبيو ومستشاره كوشنير، وأبعد منهما تأثير اللوبي الصهيوني وسلطات العدوان في فلسطين المحتلة، وربما حكام السعودية، لكنه تراجع متذرعاً بحسه الإنساني المرهف خشية التسبب بمقتل قرابة مئة وخمسين جنديأً إيرانياً، تلك الذريعة التي دحضتها تصريحات أكثر من مسؤول وعضو كونغرس بأن سبب التريث أو التراجع يعود للتشكيك بالرواية الإيرانية القائلة بانتهاك حدود إيران ومياهها الإقليمية، فضلاً عن التحذيرات التي أرسلت إلى الطائرة المسيّرة قبل إسقاطها.
تلك السجالات حدثت خلال ساعات معدودة شهدت توقعات بحصول مواجهة كبرى في الخليج العربي، قد تمتد لمناطق أوسع، فهل ثمة أحداث غير ذلك، كانت السبب في التراجع الأميركي بعد مسلسل التهديدات الأميركية لإيران المترافق مع سيل العقوبات الخارجة عن كل معايير القانون الدولي؟
أعتقد كما يعتقد كثيرون من المراقبين والمتابعين للوضع الإقليمي أن طهران وجهت عبر وسيط دولي كبير رسالة تحذير شديدة وواضحة ولا تحتمل الخطأ في فهمها، بأن أي عدوان أميركي مهما كان محدوداً، سوف يوجه برد مزلزل في الخليج أولاً، تهتز له جميع القواعد الأميركية في المنطقة، إضافة إلى القطع البحرية القريبة، سواء في الخليج أم بحر العرب، وحتى المحيط الهندي، وقد يتطور الأمر إلى قصف مواقع في الدول الخليجية، وجميعها سمحت بإقامة قواعد عسكرية أميركية وفرنسية وبريطانية على أراضيها، ومن المؤكد أن ذلك التحذير كان محمولاً على الدقة الصاروخية والتقنية التي أسقطت تلك الطائرة الأحدث، ليس من عامل أكثر إقناعاً من هذا التوقع، ذلك أن الولايات المتحدة التي قتلت أكثر من مليون عراقي، وتسببت بقتل عشرات آلاف السوريين، ودمرت مدينة الرقة، وسبق أن قتلت مئات الآلاف في فيتنام وأفغانستان، ومارست أبشع أشكال العدوان في آسيا وأميركا اللاتينية، لا يمكن أن تتراجع أمام قتل مئة وخمسين جندياً إيرانياً، الأمر الذي يعني تغييراً واقعياً في معادلة الصراع والمواجهة مع إيران، فكل من عادتهم الولايات المتحدة الأميركية يربحون، بينما تخسر الولايات المتحدة ومن خلفها الكيان الصهيوني والأنظمة الرجعية العربية، إضافة إلى أوروبا التي كانت تحاول الابتزاز والضغط بعد خروج واشنطن من الاتفاق النووي.
إنها المعادلة الجديدة في المواجهة التي ستشهد ضغوطاً وعقوبات يحكمها التخبط الأميركي والصهيوني من جانب، بينما يحكمها الصمود والنصر من إيران ومحور المقاومة.
مصطفى المقداد
التاريخ: الاثنين 24-6-2019
الرقم: 17007