هذا الغريب يشبهك..
هذا الغريب يستطيع أن يخبر عنك كل الأشياء التي تخفيها ولا تريد أن تصرح بها حتى لا يتصدق عليك والي المدينة.. عند ذلك سيذلك ولن تستطيع أن ترفع رأسك وترفض له طلباً.
الرفض حالة صحية جداً لكن أنت مريض.
الغربة مرض.. كلنا غرباء في مدينة نعرفها وتعرفنا ونعرف أسماء أشجارها وأنهارها وتجارها ومغنيها والذين صاروا فجأة أصحاب عقارات وبيارات وطائرات.. نعرف الكثير عن شوارعها ونسائها وأبوابها – المخلّعة – وحيطانها المقشرة ونوافذها المكسرة مثل مدارس الحكومة.. ولكن.. لكن أنت غريب ونحن لا نعرفك.
وبما أنك غريب وليس لك في المدينة حبق.. ولا شجرة صنوبر تعلق عليها وجهك.. فلماذا تبكي على اسمك الضائع في زحمة الوجوه الغريبة؟.
الوقت ثمين.. لا تهدر وقتك في البحث عن مدينة تشبهك.. (وحياتك) لن تجد إلا روحك الممزقة.. تسع سنوات وأنت ترفو بها.. تشطب وتمحو وتزيد وتنقّص.. ثم ماذا بعد؟
البعد؟؟ هو أن الحياة مستمرة.. بك، بغيرك، بكل الغرباء الذين مروا على الأرض.. الأشجار تكبر.. والنهر يجري وأنت تركض نحو اللاشيء.
……………………………….
هذا الغريب هو أنت..نحن.. هم..
ضحكوا علينا وأعطونا أسماء دون استشارتنا.. أعطونا حارات وأرصفة ونوافذ تطل على جهات لم تكن وجهتنا.. وحين اعترضنا قرؤوا علينا آيات الطاعة.. فطعنا حتى انكسرنا.. طعنا حتى انصهرنا بالمطاع والمستطاع، لأن لا رأي لمن لا يطاع،
من الذي سيطيعك أيها الغريب؟.
لا أحد يطيع الفقراء.. إنهم أرواح زائدة، فائضة، خلقت لتقدم قرابين للتراب والماء والأولياء.. أرواح هائمة.. لها الله ولها الجنة، مستقرها، والنسيان موئلها.. لا يتذكرها حتى المطر ولا يقرأ اسمها سوى العشب النابت حولها.. المعرش فوقها.. لا حاجة لها سوى في الملمات والحروب الصعاب.. لا بأس.. الغريب ليس أنت.. الغريب من يذكرك.
…………………….
يتوق الغريب إلى التحرر من الهامش الذي أطروه فيه.. يحلم أن يجلس في الواجهة مواجهاً تاريخه واسمه.. يريد أن يعاتب أن يحاسب أن.. لكن يداً غريبة ستربت على الكتف بقسوة وتقول (إلى الوراء) ارجع إلى الوراء.. مكانك ليس هنا.. وأنت لست هناك للأسف.. أتعرف لماذا؟.
راقب ببصيرتك المكان والزمان.. راقب العابرين بسياراتهم الفارهة ونسائهم المدججات بالسيليكون.. ستعرف عندئذ أين مكانك.. يا أخي.. قلت لك ألف مرة.. الغرباء لا يسجلون في سجلات المدينة الفاضلة.. يا أخي الغرباء مثلنا يذهبون ويروحون وقد يرجعون إذا كان هناك تقمص وعودة إلى الحياة من جديد، ولكن كل ذلك لن يثير انتباه أحد ولن يسأل عن عنوانك أحد.
ناقص واحد غريب.. زائد واحد غريب.. غير مهم.. لن ترتبك المجرات ولن تتوقف زحمة السيارات.. ولن تغلق المطاعم أبوابها ولن تتصدع القصور ولا الدور وسيبقى بائع الفلافل الذي تقضي نصف عمرك عنده يبيع الفلافل للغرباء ولن يسأل عن الأسماء.. والزبائن كل يوم يزدادون بإذن الله طالما الحرب قائمة -والأسامي- غير مهمة.
……………………………………
وبما أنك الغريب الذي لا أعرف سواه.. فلا تنظر في وجهي أرجوك..
ستذكرني بي.. وستجعل مني غريباً آخر.. وقد تنهمر دمعتي فتتدحرج على وجنتيك.. وقد يكون الوقت صخرة.. والشارع لا ينتهي عند مفرق.. بل هو يستمر.. مستمر.. وسيستمر إلى أن تلتقي ظلك.. لكن الظل يهرب والأرض تدور ولا تكترث بدموعك التي تساقطت على قميصي فتمسحها بسرعة لأن سيارة الوالي ستمر وستقف أمامك.. وستسألك (ما بك) وأنت لن تكذب.. كعادتك.. لن تكذب.. ستقول بأن راتبك يكفي ويفيض وتستطيع أن تشتري منه سيارة بعد مئة عام.. ومنزلاً بعد ألف عام.. وتستطيع أن تحضر حفلات ومهرجانات الفنانين العرب التي يتكرمون عليك بها لتفرح وتغني لدمك الذي يسال مجاناً على التراب تطرب ولعمرك الذي لا تشعر به إلا وهو يركلك ويقول:
قم.. استيقظ.. لقد انتهت الرحلة.. الحافة وصلت إلى المحطة الأخيرة.. فترجل يا غريب.. وتترجل بهدوء على عكاز الخيبة.. وأنت تنظر حولك فلا تعرف أحداً.. تحن إلى سندويشة فلافل.. لكن الوقت تأخر.. وبائع الفلافل لا يقرض الغرباء.
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 26-6-2019
رقم العدد : 17009