لأعترف ..أنا أهرب من نشرات الأخبار . لقد صار رأسي محشوا» بوجوه غريبة وبأسماء لا أهمية لحفظها سوى أن نستشهد بها على أنها أسماء لقتلة دوليين مثل ترامب ومنافقين وسفاحين مثل زعماء الغرب .. فضلا» عن أن نشرات الأخبار كلها متشابهة لأنها منقولة عن – وكالة رويتر )
فمن هي هذه الوكالة ؟ من يديرها ؟ ولصالح من تبث أخبارها الكاذبة والصادقة .ولماذا لا أحد يعترض عليها ؟ وكيف تصل إلى الحدث أولا» وتغطي العالم كله وتكون حاضرة قبل الجريمة وبعدها ..وتعلم بالتفاصيل أكثر من أصحاب العلاقة أنفسهم .
…………………………
يقال إن هذه الوكالات حيادية .
يا لها من مهزلة عصرية جديدة ..وكالات فرنسية وإنكليزية تساهم وتشارك وتدفع لتدمير ونهب البلدان النامية والفقيرة وتكون حيادية ؟
في الغرب لا يوجد شيء حيادي .لكل خطوة ثمن ولكل ثمن هدف .وبالنهاية كلها تجارة ..تجارة على عينك يا تاجر .
……………………………
أخبار كثيرة نسمعها ونعرف أنها كاذبة وملفقة وليس لها علاقة بالصدق أبدا» ولا بابن عمه .
ولكن ما إن يحين وقت تكذيبه حتى يكون الخبر قد انتشر مثل النار بالهشيم ولا يمكن بوسائل إعلامنا المتواضعة أن نطفئ هذه النار ..لذلك يستمر الخبر بالانتشار ويستمر الناس بنقله وسرده من باب الرفض أحيانا: ومن باب التصديق حينا « ليختموا الكلام بالقول المأثور ( مافيه دخان بلا نار )
وهكذا يكون (الذي ضرب ضرب والذي هرب هرب )وقد يحتاج الأمر إلى أجيال لتظهر الحقيقة .
……………………………….
في الحرب على سورية التي صارت يومياتها عادية ..استشهاد عائلة في صحنايا على يد الاسرائيليين المتوحشين ..استشهاد جنود في ريف حماه ..قذيفة في – محردة – البطلة .صاروخ على الساحل المقاوم ..وهكذا تعدد المذيعة الأسماء والمناطق وتعرض صور الدمار والويلات التي يتعرض لها السوري الذي يتغير مجرى حياته وعالمه ومكانه وأحلامه بلحظة ..بقذيفة .بصاروخ ..الزجاج يكتب على الأجساد والدم يسقي الجدران المنهارة ونشرة الأخبار تنتهي وتبدأ برامج للتسلية وكأن الذي قطعت رجلاه , أو بترت يداه ليس من عداد الموجودين في نشرة الأخبار .. فقد تحول كل شيء إلى مجرد نشرة .تنتهي النشرة ..نغلق الورق ونكمل حياتنا .
……………………………..
هل اعتدنا أن نرى الدم ولا نشهق .
صار مألوفا» أن نرى عربات الجرحى في الشارع ولا نتأوه ؟
نعم ..اعتدنا الدم والقتل والدمار .واعتدنا أن ندفع بأم شهيد تقف على كوة الصرافة لنكون قبلها ..وصار مألوفا» أن نزيح والد شهيد من طريقنا كي نسبقه غلى ربطة الخبز أو إلى الحافلة .
أما الجندي الذي قدم ويقدم كل يوم روحه للوطن ..فطبيعي أن نراه يقف في الشمس الحارقة ويرفع يده لنا كي نقله معنا .لكننا ندعي أننا لم نره .لم نلمحه .لأننا لا نراه إلا في المعركة أو في الخطابات الرنانة الطنانة الفارغة المدعية ..وكم نحن ماهرون في صوغ هاتيك الخطب التي تمجد الشهيد وأمه ووالده ..كم نحن باهرون , ساحرون , في خطابات ارتجالية تنتهي بانتهاء المناسبة وتبقى حبرا» على ورق . الورق كثير والحبر كثير والمنافقون كثر .
……………………………….
قليلون جدا» وبعد ثماني سنوات ونصف من يحفظ الود لأبناء الشهداء ..لأمهاتم ..لقراهم التي تعطش وتجوع وتقاوم وتقول ( الحمد لله )
لكن أين الإعلام من كل ذلك ..؟ هل الإعلام نشرة أخبار ؟ هل هو تبييض أموال عن طريق برامج سوداء ؟
نحن في حرب ..نعم ما زلنا في حرب ..وإعلام الحرب يجب أن يكون على قدر الحرب وويلاتها ومسؤولياتها وحزنها ودمها , ومرارتها وذاكرة هذه المرارة .. حتى لا يذهب الصالح بالطالح وحتى لا تكبر رؤوس فارغة على حساب الرؤوس المقطوعة التي علقت بالحراب وشويت أما عدسات الغرب اللعين من أجل سوريا ..ومن أجل كرامتها .
………………………….
رأيته …شيخ ينحني على عصاه ويتأمل بعينين حزينتين زيتونة مثمرة تظلله ..قيل لي ( هذا والد أربعة شهداء )
وقيل لي ..لم يعد أحد يتذكر أولاده سواه .بكيت وأنا أتساءل عن ذاكرة الحرب وسجلاتها وويلاتها ..من يدونها ومن سيقرؤها ..ولكن متى نبدأ حتى لا ينسى أبناء المستقبل ذاكرتهم ؟؟
أنيسة عبود
التاريخ: الأربعاء 3-7-2019
رقم العدد : 17015