لم يعد خافياً على أحد أن الغطاء الاستراتيجي الكاذب للوجود الأمروأطلسي في سورية هو القضاء على داعش، فثمّة تناقض ومتناقضات في الحديث الأميركي حول داعش، حيث يكون التصريح بتدمير داعش وإنهاء وجودها المسلح من العراق إلى سورية ومرّة أخرى تأتي تصاريح باستمرار وجودها، وأنفاقها، وشبكة تمويلها العالمية وإظهار تهديدها القادم بجولة جديدة كذلك بين العراق وسورية.
ومع هذا الدجل يعترف ترامب في قمة العشرين اليابانية (أوساكا) بعد اجتماعه بالرئيس الروسي بوتين بوجود ثلاثين ألف مسلّح إرهابي في إدلب، ولكن الحرب عليهم لا تجوز حفاظاً على المدنيين مع العلم أن ترامب وأطلسيوه حينما قرّروا أن يعطوا الرقّة لقسد لم تأخذهم بالمدنيين رأفة، وبالأمس اكتشفت مقبرة جماعية لأكثر من /200/ مواطن من الرقة، فالذين تقتلهم أميركا وأطلسيوها من مدنيين في الرقة، أو مدنيين في دير الزور شرق الفرات عموماً لا يندرجون في حقل المدنيين، بينما المسلحون الذين تقاتلهم الدولة وفقاً لحقها في سيادتها على أرضها، وتأمين حياة شعبها من المرتزقة القادمين مع موجة الاستعمار الجديدة الأمروصهيونية بحروب الإرهاب التكفيري، نعم إن هؤلاء ليسوا إرهابيين بل معارضة معتدلة مسلحة ولو أتت من خارج البلاد. فالتصنيف الذي تقوم به أميركا ينطلق من مشروعها في إدامة الحرب الإرهابية على سورية حتى يتم فرض وقائع ميدانية تساهم -بوهمهم- في فرض حالة التقسيم على الأرض لتنعكس مواد حاكمة في الدستور القادم المزمع حيث يجري حديث عن اقتراب التوافق على الستة المختلف عليها، وأن اجتماع (الخمسون المثلث) سيبدأ في أيلول القادم.
وعليه فلا تقبل أميركا وحلفها العدواني على سورية بأن يحسم الجيش وحلفاؤه الأمر في إدلب ليصبح ترامب أمام حرج كبير في موقفه مع الأكراد التابعين ومع أردوغان الذي هدّد بإبادتهم كما ردّد هذا ترامب كذلك. إذاً؛ سيكون الحال عند حالة اللاحرب، واللاتوافق على شيء حتى يبقى الزمن في مصلحة ترامب وخاصة أن حملته الانتخابية للدورة الثانية قد بدأت مترافقة مع خوف كبير منه أمام الناخب الأميركي الذي لم يحقق له ترامب في دورته الأولى شيئاً سوى ابتزاز ممالك الرمال ومشيخاتها ببعض المال الذي لم يحل الأزمة الداخلية للمواطن الأميركي.
وحتى في موضوع المكسيك والحدود، أو اللاجئين غير الشرعيين الذين صَدَرَ قرار ترامب بشأنهم أن يُجمّعوا ويُرغموا على العودة إلى بلادهم. وكل ما اهتم به ترامبُ الدورة الأولى هو الكيان الصهيوني، والقدس، وصفقة القرن، والحرب الإرهابية على سورية، تاركاً وعوده للناخب الأميركي ومتخلياً عنها حتى يكسب اللوبي الصهيوني في أميركا المتكفّل له بإعادة انتخابه لدورة ثانية.
ومن المعروف أن ترامب في هذه الدورة لم ينتصر في أي هدف رسمه سوى بالانحياز المهين لأميركا مع الصهيونية وكيانها العنصري، ومن الممالك والمشيخات الذين يعنّفون منه كل يوم، ويهددون بالتخلّي عنهم حتى يزيدوا له من الأتاوة المفروضة عليهم حمايةً لهم. وها هو مع الأكراد الانفصاليين في عنق الزجاجة وكذلك مع أردوغان التابع له حيث توجّه هذا الأخير لشراء منظومة /أس 400/ من روسيا، ولو تم تهديده بإلغاء صفقة الشبح الأميركية. وفي التخلّي عن اتفاقية النووي مع إيران أدخل العلاقات الدولية في أسوأ حالاتها لتصبح نُذُر الحرب الكارثية مدمّرة للأمن والسلم الدوليين، وتشجيع بريطانيا على احتجاز ناقلة النفط الإيرانية العملاقة في جبل طارق شرارة قد تتفجّر فيها الحرب التي ستخسرها أميركا وكيان الصهيونية ومعهما الممالك والمشيخات مباشرة.
وقد رأينا في قمة العشرين في أوساكا اليابانية أن ترامب يغدو معزولاً، وأميركا دولته لم تعد صاحبة القرار الدولي المفروض على الجميع، فها هي أوروبا تضطر لأن تكون مع مصالحها مع إيران في الاتفاق النووي، وفي استثماراتها، ولم تعد قادرة على الجري وراء ترامب الذي يفرّط بالحليف قبل الخصم حينما يتعلّق الأمر بمصالحه، ومن الحرج السياسي الذي يواجهه ترامب في موضوع الحصار المشدّد على إيران بوهم إضعافها، وتقليص تأثيرها الإقليمي أنه مضطر لأن يسمح لبعض حلفائه بمواصلة التعامل مع إيران لعدم قدرة الحلفاء الاستغناء عن مصالحهم في الاقتصاد الإيراني. وحتى في التهديد الترامبي لإيران بأن لا تزيد التخصيب لليورانيوم فوق النسبة المقررة في الاتفاق لم تنتبه إليه إيران وكانت الرسالة الإيرانية لترامب صارخة بإسقاط الطائرة من دون طيار.
واليوم إذا لم تُفرج بريطانيا عن ناقلة النفط ستقوم إيران معاملةً بالمثل باحتجاز ناقلة بريطانية لتصبح بريطانيا مع ترامب في حالة من يركب على النمر فلا هو قادر على الاستمرار، ولا هو قادر على النزول. وقد رأينا في الأيام القليلة الماضية أن الكثير من المواقع الإلكترونية قد نشرت محاولات أميركية سرّية مع إيران بأن تقوم الأخيرة بمساعدة ترامب في النزول عن الشجرة حيث تُحدّد له /3/ مواقع في إيران غير ضارة ولو كان منها موقع إطلاق الصاروخ على الطائرة حتى يخرج ترامب بماء الوجه، وتخرج أميركا وإيران رابحين من الأزمة بما يساعد ترامب على مواصلة دعايته الانتخابية كمنتصر، وليس كمنكسر في كافة سياساته، وحتى اليوم لم توافق إيران على مساعدته في النزول عن الشجرة، وهدّدت بأن النفط الإيراني لن ينقطع عن التصدير حتى ينقطع خروج النفط من آباره في مناطق السعودية والخليج كافة. وإذا عدنا لنحلل الموقف السياسي والعسكري لأميركا في سورية، والعراق خصوصاً؛ نجد أن سياسة بناء التوترات الدولية ومحاولة الوصول إلى شفير الهاوية، لم تُجدِ نفعاً مع ترامب، والحصار الاقتصادي لسورية وإيران كذلك.
والتخويف بالوجود العسكري الأطلسي ليست آليةً تُحرّك فيها الحوادث داخل سورية والعراق لتحقيق أيّ نصر، والموقف المكشوف مع داعش والنصرة لم يعد ينطلي على المجتمع الدولي، وأسلوب سحب الأوروبيين إلى خدمة المعارك الأميركية بأكلاف أوروبية انتهى. والمكابرة بأن العالم لم يدخل عتبة النظام الدولي متعدّد القطبية لم تعد تجدُ من يصدّقها. والحرب التي كانت أميركا تخيف العالم بها كذلك انتهت بعد أن اكتشف العالم أن أميركا لا تجرؤ وراء البحار بشنّ حرب على دول عظمى إقليمياً باعتبارها قد تعوّدت أن تشنّ حروبها على الضعفاء لتخيف الأقوياء وقد انكسرت هذه الأسطوانة، وما نراه اليوم هو التراجع عن قرار الحرب في اللحظة التي يستحقّ فيها كما حدث؛ في القرار على إيران بعد إسقاط الطائرة الأميركية.
وبالمحصلة لن تفوز أميركا -إذا استمرت على هكذا منهج في السياسة- بشيء طالما أن الجبهة المقاومة لها أصبحت واسعة. وزيارة المسؤول الإيراني لسورية لها رسالتها. وكذلك الإعلان عن اجتماع أطراف أستانا سيكون قريباً. وكل الذي يظهر في خطأ السياسة هو أن وقائع الميدان التي تحاول أميركا ألا تضعها في دائرة النظر حتى تماطل في الاعتراف بالنصر الكامل للدولة السورية الشرعية ستفشل فيها كما فشلت بما كان قبلها؛ فالجيش وحلفاؤه على جاهزية للحسم في إدلب وفي أستانا القادم لا بد أن يتم وضع أردوغان أمام مسؤولياته، والإرهاب صار محكوماً عليه بالزوال مهما حاولت أميركا أن توفر له المجال.
د: فايز عز الدين
التاريخ: الاثنين 8-7-2019
الرقم: 17018