ثورة أون لاين – ديب علي حسن:
حكاية نادي النعاج وجرار الغاز، وبراميل النفط، وصيادي السحالي والضب والعمل ليس عيباً أبداً، والفقر ليس شائناً إطلاقاً، ولكن المشين والمعيب أن تكون هزيلاً،
ضعيفاً،
أن تكون مسخاً وفجأة تهطل عليك نعمة ما، من غامض الغيب فتتحول من إنسان كان يستجدي الصدقة والعطف ولا يرجو إلا البقاء على قيد الحياة والعثور على ظل شجرة تقيه حر الصيف، وبقايا يباس من حطبها يشعله شتاء ليقيه قر البرد… حكايات هؤلاء الأعراب الذين انتفخوا فجأة بالنفط والغاز وأكياس الدولارات ونسوا أنه كانت تبرى بأظافرهم الأقلام وأن الجيش الذي كانوا يبحثون عنه لباساً ويجدونه حريراً… والآن ضاقوا حتى بالحرير لباساً، وبرغد العيش عطاء، توهموا فتورموا، انتفخوا واستطالوا.. هؤلاء هم من يذكرني بحكاية صياد وفأر.
في غابة ما كان الصياد الساحر يبحث عن رزقه وفجأة لمع أمامه فأر أراد أن يقنصه، فأشار الفأر إلى الصياد أن توقف لديّ ما أقوله لك..؟! (فسأله الصياد الساحر أنت أيها الفأر لديك ما تقوله وما تقدمه سأقنصك فلا حاجة لك هنا في هذه الغابة الفسيحة، رد الفأر قائلاً: أعرف مكان كنز يغنيك أبد الدهر عن الصيد والتعب والبحث عن صيد ثمين يطعمك أنت وأولادك، قد تجد صيدك وقد لا تجده لكن الكنز سيغنيك أبد الدهر.
تعجب الصياد مما قاله الفأر وسأله: وما الثمن الذي تريده مقابل الكنز..؟ رد الفأر ألست ساحراً نعم أنا ساحر اطلب ما تريد.. أريدك أن تجعلني هراً..؟! ولم تريد ذلك لأن الهر عدوي، نعم ليكن مشيا معاً باتجاه الكنز وفي الطريق الفأر الذي صار هرّاً فكر بحاله صحيح أني هر ولم أعد فأراً والفأر الذي كان هو من يخافني الآن… ولكن ماذا عن الذئب أخافه، فجأة توقف الهر وخاطب الصياد الساحر: قف قليلاً… نعم ما تريد.. أنا الهر وأصدقك القول: إني الآن أخاف الذئب.. الذئب نعم… تعلم أننا في غابة واحدة ومكان واحد، وليس لي قدرة على أن أجابهه.. أريد أن أصبح ذئباً… ليكن ها أنت صرت ذئباً وصار الهر ذئباً مشيا مسافة متوسطة.. عاد الخوف يملأ قلبه من الضبع… وتكرر المشهد ثانية: أريد أن أصبح ضبعاً لأنه عدوي، وقد يأكلني.. أخافه.. اجعلني ضبعاً، لاتنس أن الكنز كبير، كبير، وصار الذئب ضبعاً والطريق إلى الكنز يقصر رويداً رويداً، في الغابة نمور تملأ المكان ولا طاقة للضبع على النمر، وصار الضبع نمراً، نعم نمراً، وهو الآن سيد الغابة بل وحشها وأقوى من فيها هكذا يفترض.. وقبيل الوصول إلى الكنز بمئات الأمتار لا أكثر كان الطلب الأخير، طلب المستحيل… النمر للساحر: قلت لك: إن الكنز ثمين ويغنيك إلى أبد الأبدين.. نعم.. وأنا أعطيتك ما تريد.. لا.. بقي شيء واحد ماذا؟ ألست نمراً.. بلى نمر.. لكني أخاف الليل، أخاف الليل… كررها مرات ومرات أريد أن تجعل الزمن كله نهاراً لئلا أخاف الليل… بروية وهدوء رد الصياد الساحر: أنت فأر تورم وصار بشكل نمر وقلبك قلب فأر.. لا أريد كنزك عد فأراً إلى جحرك سريعاً.. عاد الفأر المنتفخ إلى ما كان عليه… لم ينته مشوار التحول أبداً وليس للساحر أن يغير سنّة الكون ونظامه.. القلب قلب فأر والهيكل نمر من جلد فأر، من ورق من وهم من ظنون.
نحن الليل، ونحن الصخور، ونحن النهار، نحن الباقون، نحن من حوّل الفأر نمراً، ونحن من يعيده إلى جحره وإلى التقاط فتات خبز يابس.. لسنا الساحرين، ولسنا الباحثين عن كنز في غابات غير أرضنا، غير تاريخنا، وطننا، ثروتنا، ترابنا، قدسنا، كل ذرة تراب معطرة بدماء الشهداء أعراب النعاج وليتهم بقوا يرعونها فهي ثروة لا تقدر بثمن، اجتمعوا، نفذوا، صرفوا أموالهم على كل ما لذ وطاب في سهرات ماجنة وعلى كل ما خرب ودمر.. واليوم لم يبق في مصارف حقدهم إلا أن ينتقموا من طيب حضارتنا وعطائنا، وبالتحليل المنطقي هذا طبيعي لأن الذي لا جذور له يتمنى أن تقتلع الجذور كلها، ومن يرعى الإبل يريد للجميع أن يكون رعاة مثله.. إنه عصر الغرائب والعجائب.. ألم يقل الشاعر العربي في الأندلس ذات يوم:
– مما يزهدني في أرض أندلس – أسماء معتمد فيها ومعتضد
– ألقاب مملكة في غير موضعها – كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
وهل اليوم نحن في غير أندلس لم يطق فئران الأنابيب صبراً عليها وعلى جمالها، فأرادوا لجمالها الخراب وأي خراب.. ولكن الفأر يبقى فأراً وغداً لناظره قريب.