عندما قامت الثورة الإسلامية في إيران كان أول ما فعلته هو اعتمادها استراتيجية القوة وتطوير الذات سواء بالأسلحة أم بالعقيدة القتالية، ولما شعرت أميركا بتعاظم قوة إيران أدخلتها في حرب مع العراق لإنهاكها وبالتالي استتباعها في محاولة لاحتوائها..
لكن إيران الثورة قررت منذ البداية أن الاعتماد على النفس هو الذي يبقيها على الخريطة، ليس فقط كي تستمر كدولة وإنما أيضاً كي تقف مع الشعوب المسحوقة وضد الاستكبار العالمي وبالذات قضية فلسطين القضية المركزية التي تتمحور حولها الصراعات العربية الاسرائيلية.
وما يحدث هذه الأيام في المنطقة بعد فشل الحريق العربي في سورية – وهذا هو الأهم – فهي الدولة التي تصدت لصفقة القرن وأجهضتها مع حلفائها ومنهم إيران والمقاومة إضافة إلى روسيا والصين اللتين أسستا للثنائية القطبية حتى تمنعا أميركا من الاستفراد بالعالم والتحكم بمقدرات الشعوب.. فإلى أين ستؤدي هذه المواجهات المباشرة وغير المباشرة..؟
إن إيران التي تتصدر الصورة تدرك أنّ خضوعها لإملاءات أميركا وحلفائها والمشروع الأنكلوساكسوني – الصهيوني يعني أنها تنكرت أو تخلت عن مبادئها ودورها واستجابت لكل ما سيترتب على هذا الخضوع، وهكذا تقوّض كل ما بنته طوال أربعين عاماً تحت الحصار، أو أن تستمر على مواقفها وتواجه، فالمواجهة تختزن آمالاً كبيرة بتحقيق النجاح وتثبيت المواقع الاستقلالية.
هنا صُدمت أميركا، فلجأت إلى التهويل بالحرب، وشكلت (حلف الناتو العربي) وعقدت اجتماع وارسو وصولاً إلى الحلف البحري في الخليج لمحاصرة إيران، ونقلت قوات عسكرية إلى السعودية كرسالة بأن الخيار العسكري جدي، بينما كانت تسعى عبر وسطاء إلى التفاوض، لأن تكاليف الحرب ستكون كبيرة جداً.
لكن إيران رأت أنه لا بد من تغيير قواعد الاشتباك انطلاقاً من موقفها المبدئي الذي تأسست عليه فتعاملت مع قضايا الناقلات والمضائق باستراتيجية جديدة وهي (تضييق المضائق)، فإما أن تكون للجميع أو لا تكون لأحد، بما يوصل رسالة أنها قادرة على السيطرة على الممرات النفطية، فكان إسقاط إيران لطائرة التجسّس الأميركية ثم احتجاز الباخرة البريطانية التي انتهكت الحدود الإيرانية مقابل الشاطئ رداً على احتجاز باخرة جبل طارق، واعتقال 17 جاسوساً أميركياً في إيران، وهي تعمل الآن على إنشاء مفاعل آخر في بوشهر بعد أن تحررت من الاتفاقية التي كانت تقيدها.
لقد تصوّرت أميركا وبريطانيا بعد عملية احتجاز باخرة مضيق جبل طارق أنهما ستجبران إيران على وقف تصدير نفطها، لكن الردّ الإيراني قوبل بعمل فوري فيه دلالات لم يكن الغرب الذي فقد هيبته يتوقعها كما أن فيه دروساً للشعوب التي تسعى إلى التحرر.
هذا الرد رسم قواعد اشتباك جديدة في العلاقة مع الأعداء بأن يكون الردّ المناسب في الوقت المناسب. فإيران في هذا العمل لا تعتدي ولا تبادر إلى عمل ميداني إنْ لم يكن مسبوقاً بعدوان عليها، كما أنّها لن تسكت عن أي اعتداء وبهذا الموقف أسقطت الهيبة الأميركية والبريطانية وهذا أمر بالغ الخطورة بالنسبة لاثنتين من أقوى الدول وأن عليهما إعادة الحسابات في التعامل مع إيران لترسي معادلة ردع متبادل يقوم مكان الردع الأحادي الأميركي الذي يمنع أحداً من الرد حتى ولو كان دفاعاً عن النفس، ومفاعيل ما قامت به إيران يصبغ العلاقات الدولية كلها ويفرض نمطاً جديداً فيها قائماً على الثقة بالنفس وكسر قيود الهيبة الغربية.
وإنّ غداً لناظره قريب…
د. عبد الحميد دشتي
التاريخ: الثلاثاء 30-7-2019
رقم العدد : 17037