هل الشعر الا نور اللغة ونبضها بل ربما هو مداها ونداها الاخضر البهي.. ولكن السؤال: هل كل شعر يشع ندى وكيف يقطف الشاعر حبات الندى من غيم اللغة المحلق عاليا.. أليس الامر معضلة بل جدلية لابدّ لناقد متمرس أن يغوص في ابحارها ويستمطرغيمها قطرة قطرة؟ وهل أحد أجدر بذلك من شاعر وناقد يكابد الامر تجربة شعرية ونقدية ويبحث في معارج النور يأتي به شلالا من العطر.. الشاعر والناقد الاستاذ الجامعي وفيق سليطين يكابد التجربة ويقرأ التأسيس والتحويل في تناصيات الشعر والتصوف في كتابه الجديد الصادر عن دار التكوين بدمشق تحت العنوان السابق.. منذ أن تقع عيناك على هوية الكتاب الأولى بشقيها البصري والعنوان أعني الغلاف وما يشي به انت امام كرم من النجوم يبهرك الضوء المتشابك في اللوحة مع الغيم ومتاهات الحرف والعناق.
فكيف بك إذا أبحرت إلى عوالم التصوف وتقطير اللغة كلمة كلمة والبحث في الجذور وعنها وقراءة الفروع فأنت امام حقل درسي يقرأ ويبني ولا يصف بمقدار ما يعيد صهر ما كان لعله يعيد الكلمة إلى بوتقة الاتقاد ويخلصها من كل ما علق بها.
والدراسة كما يقول سليطين في مقدمتها: محاولة للكشف عن مكامن الشعري في الصوفي وعن آفاق التصوف في التحويل الشعري له في بعض تجارب الحداثة الشعرية لدينا. ويعني ذلك ملاحظة ما يقوم عليه جدل الشعري والصوفي من انفتاح على أبعاد التجربة الإنسانية في مسعى رد بعضها على بعض بحيث يكون الغوص على تلك الوحدة العميقة التي تحيل عليها الأجزاء إضاءة لجوانبها وتجاوزا لما يسفر عنه منطق العزل من رؤى التفتيت والتذرير وانقطاع الصلة الحيوية بين الظواهر والاقسام.
من هنا كان سؤال التأسيس مشفوعا بسؤال التحويل, وملازما له في عمليات التداخل والتمايز التي يتحول بها الاصل ويتأصل فيكون هو وما ليس هو في حركة الابداع التي هي تجاوز مستمر من الجانبين.
واذا كان سليطين يقدم قراءة ثرة في مجموعة من الاعمال الحداثية ويمضي بنا إلى المقارنات والمقاربات بين موضوعات شتى.. فإن ذلك يضعنا أمام القول القديم, لانقول إلا مكرورا ولكن ببوتقة جديدة.. في اللغة والموضوع والتوجه وفضلنا في ذلك اننا أسقطنا على النص ما نحن متخمون به ومثقلون به ثقافيا وحضاريا.. ربما عهدناه تجشؤا أو هضما لكن الصناعة الجديدة غير موجودة.
هل نبحث عنها.. عند البياتي ام حاوي ام ان آلامهما في ذلك كله هو ادونيس؟
الذي يأخذ الحيز الكبير في هذه الدراسة المهمة جدا.. في الفصل الثالث الذي يشكل مركز بل بؤرة العمل يخصصه للقراءة في حيرة ادونيس الصوفية, يتخذ من أغاني معيار الدمشقي موضوعا لدراسة الحيرة المتواترة في هذه المجموعة كما يقول سليطين.
ويمضي كاشفا عن الجذور والفروع التي غدت ايضا جذورا إدونيسية كيف لا وقد أحياها الفعل الاستشرافي وصهرت ببوتقة جديدة مزاجها من عطر الماضي والحاضر، ويخلص إلى القول: إن ادونيس استقدم مفهوم الحيرة من حقل التصوف وأعاد توظيفه في نصوص الاغاني بمستويات تناصية مختلفة مستخدما قناع مهيار الذي يبدو ملتحما به حينا ومحيلا عليه حينا آخر.. متحدثا عنه أو متحدثا بلسانه بحيث تغدو شخصية مهيار بؤرة التشكل الشعري ومركز البناء النصي ومنطلق الصرف والتحويل والتشابك الدلالي.
الكتاب مهم جدا فيما يقدمه ويبحث فيه وهذا كما يقول المؤلف محاولة قرائية لنماذج من التناص في الشعر العربي الحديث من مراميها الكشف عن خصوبة هذا التفاعل الذي تتعدد معه وجوه الوحدة النصية. بقي أن نشير إلى أن للدكتور سليطين عشرات الكتب النقدية والإبداعية التي حفرت مجرى عميقا في المشهد الثقافي العربي ولاسيما في مجال الشعر والتصوف.. صدر الكتاب الأخير هذا عن دار التكوين بدمشق.
دائرة الثقافة
التاريخ: الثلاثاء 20-8-2019
الرقم: 17051