إن قراءة ما أقدمت عليه (إسرائيل) منذ فترة يجب أن يكون مترابطاً بما تفعله مسيّراتها في العراق مع الحشد الشعبي لأول مرة، وضرب موقع لحزب الله في عقربا، وأخيراً عملية المسيرتين اللتين استهدفتا وحدة الإعلام في الضاحية الجنوبية يعني أن العدو أراد من خلال هذه العمليات إرسال رسائل لمحور المقاومة مفادها أن قواعد الاشتباك قد تغيرت، وأن بإمكان (إسرائيل) التي فقدت هيبتها منذ هزيمتها المدوية عام 2006، أن تتحرك على عدة جبهات، وأن هناك جديداً طارئاً قد حدث دفعها إلى مثل التصرف الذي يبدو في ظاهره أنه أرعن، لكنه في حقيقة الأمر يعني شيئاً آخر، فالاتجاه إلى مثل هذه العمليات العسكرية بشكل محدود، جاء على خلفيتين أساسيتين، الأولى عامة وتتصل بالهزائم المتتالية لمعسكر العدوان، والثانية شخصية وتتعلق بنتنياهو ومستقبله في (إسرائيل) في الانتخابات التي ستقرّر في 17 الجاري ما إذا كان سيبقى على رأس الحكومة أو في السجن بتهم الفساد.
لقد أراد نتنياهو أن يظهر قوّته ويرفع حظوظه في العودة إلى رئاسة الحكومة حتى ولو كانت هذه العودة بدماء الإسرائيليين، كما قال سيد المقاومة، فهو يدرك أن مثل هذه العمليات لن تمر دون ثمن سيوقع عدداً من القتلى.
المستجد الذي لم يحسب له نتنياهو حساباً أن عملية المسيرتين في الضاحية الجنوبية معقل حزب الله هو الغطاء الذي حظيت به المقاومة من مجلس الدفاع الأعلى اللبناني بأن من حق اللبنانيين الدفاع عن أنفسهم (بشتى الوسائل)، ما يعني أن مدَّعي السيادة وهم من المعارضين لسلاح حزب الله قد أصبحوا في العراء ولم يعد بإمكانهم الادعاء بأن الدولة هي الوحيدة صاحبة القرار في الحرب والسلم، إضافة إلى تقديم الشكوى لمجلس الأمن الذي سيعقد في 15 الجاري.
لقد كان نتنياهو بحاجة إلى ورقة دسمة يوفر له استعمالها فرصة أكيدة في الفوز بالانتخابات، وبدا له أنّ الورقة العسكرية الأمنية هي التي تدغدغ الشعور الإسرائيلي -كما يعتقد-، لكن العكس هو الذي حدث وأصبح الجندي الإسرائيلي يقف على (رجل ونصف) منتظراً رد المقاومة الذي كان مفاجئاً وأوقع خسائر فادحة في عملية الأحد الماضي الأمر الذي استدعى استنفاراً للعدو على الجبهة الشمالية.
إن العدوان الإسرائيلي شكَّل انقلاباً على قواعد الاشتباك التي أرسيت منذ العام 2006 وساد الهدوء لبنان بعد أن التزمت (إسرائيل) بعدم الاعتداء الناري أو استهداف أيّ مرفق أو شخص في لبنان عامة وحزب الله خاصة. وجاء نتنياهو ليكسر قواعد الاشتباك تلك، وهذا ما وضع لبنان ومقاومته أمام خيارين؛ إما قبول لبنان بالتغيير والإطاحة بالأمن اللبناني والاستسلام أمام منطق إسرائيلي عدواني يقول إنّ (إسرائيل) تفعل ما تريد بقوّتها وإرادتها، وهذا يعني الإطاحة بكلّ المكتسبات الوطنية الأمنية والسياسية اللبنانية.
وكان منطقياً أن يرفض حزب الله الخيار الثاني خيار الاستسلام وهو العامل بشعار (هيهات منا الذلة) ولهذا كان الوعيد بالردّ الذي حدث وزلزل الكيان الصهيوني.
وعليه نقول إنّ (إسرائيل) قد علمت أنّ المقاومة لم تراكم القوة والخبرات من أجل أن تأتي هي بخفة واستهتار وتنتهك أمنها وأمن لبنان بل إنّ ما لدى المقاومة من إمكانات هو في خدمة هذا الأمن والوجود، الذي يجهض محاولة نتنياهو.
إن رد حزب الله المدروس بعناية بالغة في الزمان والمكان والوسيلة جعل العدو يندم على فعلته.
وإن غداً لناظره قريب…
د. عبد الحميد دشتي
التاريخ: الثلاثاء 3-9-2019
رقم العدد : 17064