هو الاسم الذي أطلق على مرسم أسسه في دمشق عام 1941 عدد من الفنانين التشكيليين كان من بينهم محمود جلال وميشيل كرشة ومحمود حماد ورشاد قصيباتي وعبد الوهاب أبو السعود ونصير شورى، وربما كان هذا التجمع التشكيلي هو الأول في تاريخ الحركة التشكيلية السورية.
كان الفنانون في مرسم فيرونيز معلمين للرسم في مدارس دمشق، وينجزون في المرسم دراسات عن الطبيعة الصامتة، والنموذج الحي عن الباعة المتجولين والشحاذين، متوجهين بتعليمات الفنان المعلم محمود جلال الفنان الواقعي خرِّيج إيطاليا، والفنان المعلم ميشيل كرشة الفنان الانطباعي خِرِّيج فرنسا، وفي أوقات فراغهم كانوا يصنعون ألعاباً خشبية للأطفال، كما استضاف المرسم وقتها بعض الفنانين اللاجئين إلى سورية من أوربا الشرقية.
وفيرونيز هو الاسم الذي عرف به فنان عصر النهضة الإيطالي (باولو كالياري) (1528 – 1588) الذي اعتبرت لوحاته المعتمدة على التأثير الشعري للألوان نموذجاً لفن نُسب إليه (الفن الفيروني)، وهو أيضاً مكتشف اللون الأخضر الذي يحمل اسمه (فيرونيز)، وقد استخرجه من هرس أحد الأحجار الكريمة، واستخدمه بطريقة تشبه الأسلوب الانطباعي قبل ظهور (الانطباعية) بأكثر من ثلاثمئة سنة. أما المرسم الذي حمل اسمه في دمشق فقد كان منزلاً يقع في الطابق الأرضي لبناء ذي فسحة سماوية خلفية في حي متفرع عن جادة (رامي) في دمشق، هو في الأصل ورشة دهان للمفروشات وألعاب الأطفال يملكها عدنان جباصيني الذي زاول التصوير الزيتي فترة من حياته.
كان عدنان جباصيني من رافضي الاتجاهات الفنية الحديثة، ويذكر غازي الخالدي في مقالة نشرها في العدد 49-50 من مجلة (الحياة التشكيلية) الفصلية السورية أن عدنان جباصيني اتفق مرة مع الفتى الذي يخدم وينظف المرسم على أن يضع مجموعة ألوان زيتية متبقية من الألوان المتروكة على (الباليتات)، بشكل عشوائي، على لوحة وبدون أي تصميم أو فكرة مسبقة، وأن (يلخبط) الألوان ويمزجها كيفما اتفق على سطح اللوحة، ثم يمضي فيقلب اللوحة رأساً على عقب، ويضعها في مكان عالٍ، لا تصله الأيدي. وعندما اجتمع الشباب رواد المرسم، ومنهم نصير شورى ومحمود حماد والنشواتي والجباصيني وجلال وتحسين وغيرهم.. قال لهم عدنان: (ما رأيكم بهذه اللوحة إنها من رسم الفنان اليوغسلافي (بوتشوشا)؟) فسكت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، ولم يتجرأ أحد أن يقول رأيه، وبعد لحظات بدأت تعليقاتهم وكل واحد بدأ يتحدث عن ميزاتها الفنية، من لون، وتكوين، وإحساس، وجرأة، وتميز بالشخصية، وتفرد بالأسلوب، إلى أن أشبعوها تحليلاً وتقويماً، وأخيراً نادى للفتى الذي يقدم لهم الشاي والقهوة وسأله أمامهم: (لمن هذه اللوحة.. من رسمها؟) فقال الصبي خائفاً: (أنا يا معلمي.. جمعت ما بقي من الألوان ودهنت هذه اللوحة)!!
غير أن محمود حماد يقدم رواية أخرى للحادثة، حيث ينقل عنه ممدوح قشلان في كتابه (نصف قرن من الإبداع التشكيلي في سوريه) الصادر في دمشق عام 2006 هذه الرواية:
(كانت المعارض التي تصل إلى دمشق من الخارج نادرة، من أهمها معرض الفنانين البولونيين الذي أقيم في فندق (الشرق) عام 1944 وكان يرافق المعرض فنان بولوني معروف يدعى (جوزيف جاريما) كان له نشاط كبير في تأسيس نوادٍ (أرت كلوب) Art club في روما وغيرها من العواصم.
تعرفنا عليه ودعوناه لزيارتنا في مرسم (فيرونيز)، الذي ذكرته في بداية هذا الحديث، فصار يتردد علينا بين الحين والآخر، وكان يجيب على تساؤلاتنا، كما أنه قام أمامنا بتجربة عملية لشرح أسلوبه الفني، وكان يتبع المدرسة التنقيطية، واستفهمنا منه عن معنى التفكيكية والتعبيرية والتجريدية إلى غيرها من تعابير ومذاهب حديثة لم تكن واضحة في أذهاننا، فتوطدت صداقتنا إلى أن انتهت مهمته في دمشق وغادرنا إلى القاهرة.
مرت فترة، وكان أن قامت الاستعدادات للاحتفال بالعيد الأول للجلاء، فتحول مرسم (فيرونيز) إلى ورشة عمل لوحات كبيرة مشاركة من الفنانين بهذا العيد الوطني، فكنت ترى على سلم محمود جلال يكمل رسم جندي فرنسي، وعلى سلم آخر صلاح الناشف مشرّعاً ريشته وألوانه، وفي غرفة أخرى نصير شورى، وهكذا كانت تسود الجميع حمى العمل والنشاط وكان يدور بين هذا وذاك صبي في الثانية عشر من عمره اسمه جاسم، ينظف الريش ويلبي طلبات الفنانين، ويكنس الأرض، إلى غير ذلك من أعمال صغيرة.
شارك الفنانون التشكيليون بلوحاتهم للمرة الأولى في تظاهرة وطنية، وعاد مرسم (فيرونيز) إلى اجتماعاته المعتادة. وفي هذه الأثناء عثرت على قطعة من الخشب مدهونة بألوان شتى على شكل مستطيلات متداخلة ونقاط سوداء وحمراء وصفراء، بعفوية مطلقة. فقلت لصديقي عدنان جباصيني: انظر ماذا وجدت؟ قال: لا بد أن الخبيث جاسم أراد أن يجرب مواهبه فنثر الألوان على الخشبة. قلت: ماذا لو نسبناها إلى صديقنا (جاريما) وذيلناها بتوقيعه؟ وجعلنا منها (مقلباً) لزملائنا هذا المساء؟ قال: تلك والله فكرة!
قلدت توقيع الفنان البولوني (جاريما) على اللوحة ووضعتها في إطار وزورت رسالة عن لسانه يبثنا فيها أشواقه وتحياته، ويذكر أيامه في دمشق ويرسل لنا تلك اللوحة الصغيرة عربون مودة، ووضعت الرسالة في مغلف لرسالة قديمة، كانت وصلتنا في وقت سابق منه من القاهرة.
انطلت الحيلة على أصدقائنا وراح كل منهم يعلق على اللوحة حسب اجتهاده، ما بين متطلع إلى الحداثة، قرظ وأطنب في التقريظ، وأشار إلى انسجام لوني نادر، وإلى إيقاع تشكيل منقطع النظير، وآخر متمسك بالأعراف التقليدية أشاح بوجهه رافضاً مستنكراً. ولكن الجميع أثنوا على طيبة (جاريما) وصداقته، واستمر الأمر قرابة أسبوع، إلى أن كنا مجتمعين ذات مساء، وإذا بالصبي (جاسم) يدخل ويفاجأ بلوحته مؤطرة ومعلقة في صدر المكان، فيشهق ويقول: أنا رسمتها.. فخيم ذهول غريب لبرهة على المجتمعين.. ثم قام بعضهم غاضباً وغادر المكان، وتقبل البعض الآخر الأمر بضحكة وروح رياضية).
وأي من الروايتين كانت الأصح، فكلتاهما تدل على إمكانية الاتجاهات الفنية الحديثة على خداع حتى المختصين، لكن ذلك لا يعني رفض الحداثة، وإنما رفض غياب، أو ضعف، المعرفة العميقة بها.
والأمر لا يتعلق بالفن التشكيلي وحده..
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 3-9-2019
رقم العدد : 17064