تطالعنا بين حين وآخر أقوالٌ ترى أنه قد كتب عن المراحل السابقة في تاريخ الفن التشكيلي السوري ما يكفي، وأن صار لزاماً الكتابة عن تجاربه المعاصرة، وحاله الراهن. فإلى أي مدى يتفق هذا الرأي مع الواقع؟
بداية يجب ملاحظة أن لا تعارض بين الكتابة عن المراحل الأقدم، والمراحل الأحدث في تاريخ فننا التشكيلي، فهي مراحل متكاملة ومتتابعة، وأحياناً متداخلة. ومن ناحية ثانية فإن الكتابة عن الفنون الأقدم في العالم لم تتوقف يوماً رغم الكم الهائل من النصوص المتوافرة عنها، فهناك دائماً زوايا رؤية جديدة، وأحياناً معلومات جديدة. ومن ناحية ثالثة، وهي الأهم، أننا لم ننجز بعد توثيق تاريخنا التشكيلي الحديث، وتنقيته من الأخطاء بتنوع أشكالها، بما في ذلك غياب تجارب عنه، أو سرد معلومات غير دقيقة، أو خاطئة كلياً. وفي إطار التوجه نحو إنجاز ذلك تؤدي بعض مواقع التواصل الاجتماعي دوراً مهماً للغاية، ومنها بشكل خاص صفحة (تكّون الفن التشكيلي الحديث في سورية) التي يديرها الدكتور عبد الرزاق معاذ والذي شغل سابقاً عدة مواقع ثقافية منها: المدير العام للآثار والمتاحف، ومعاون وزير الثقافة. وهو إلى ذلك نجل الفنان الكبير الراحل خالد معاذ.
قبل بعض الوقت نشرت صفحة (تكّون الفن التشكيلي الحديث في سورية) صور مقالات في صحيفة الوحدة (الثورة حالياً) تعود لعام 1959 عن تمثال الشهيد عدنان المالكي بدمشق، ورد في بعضها أن من أنجزه هو المرحوم أكرم الشوا، وهو ما نفاه بحسم بعض أعضاء مجموعة الصفحة، مؤكدين الرواية المتداولة بأن من قام بصنع التمثال هو رائد فن النحت السوري المعاصر الفنان الحلبي المبدع فتحي محمد (قباوة)، وتبع ذلك جدل طويل ساهم فيه أفراد من عائلة المرحوم الشوا، ونشروا صور مقتطفات صحفية تشير إلى أن الشوا هو من صنع التمثال.
سمعت باسم المرحوم أكرم الشوا لأول عام 1978 من الأستاذ نذير نبعة في معرض حديثه عن تمثال المالكي، حيث ذكر أنه قام بصب التمثال بسبب مرض فتحي محمد. وبعد سنوات طويلة، وتحديداً عام 2017، سمعت الحديث ذاته تقريباً من الدكتور عفيف البهنسي (كان يشغل موقع مدير الفنون التشكيلية أثناء إنجاز التمثال) وذلك أثناء قيامي بالتسجيل الصوتي لمذكراته التي صدرت عن مؤسسة (وثيقة وطن) في العام التالي، وجاء في الصفحة 163 منها:
(بعد استشهاد العقيد عدنان المالكي كان على الدولة تكريمه، واقترحت مديرية الفنون إقامة تمثال له. وكلفت النحات القدير فتحي محمد بعمل هذا التمثال، وكان في آخر شارع أبو رمانة عند قصر الضيافة مقبرة فرنسية ومحطة بنزين مهجورة تصلح مكاناً لمشغل نحت مؤقت، وقام فتحي محمد بصنعه في هذا المكان، وتمّ صبّ التمثال برونز من قبل أكرم الشوا ولا أذكر من قام بتكليفه بهذا الأمر..أما الضريح فقد صممه وهبة الحريري، وهو فنان حلبي لا يجارى بما يسمى (اليد الحرة)..).
وذكر الدكتور سلمان قطاية في كتابه (حياة الفنان فتحي محمد) الصادر عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي عام 1962 أن فتحي محمد قد أنجز قالب التمثال قبل مرضه وعودته إلى حلب. وفي كتابه (تاريخ النحت المعاصر في سورية) الصادر عام 1973 أشار الدكتور عبد العزيز علون إلى أن (فتحي محمد أنتج في دمشق فيما بين خريف عام 1955 ونهاية شتاء 1958 مشروعي نصبين للشهيد المالكي، وثلاثة تماثيل صغيرة الحجم وبالحجم الكامل لذات الشخصية، وتمثال نصفي بالحجم الطبيعي للمالكي أيضاً وتمثال بارتفاع 380 سم للمالكي). (ص9 و10). وكرر هذه الرواية المشاركون في ندوة أقيمت في حلب بمناسبة مرور خمسين عاماً على تأسيس مركز فتحي محمد للفنون التشكيلية الرواية ذاتها، وجاء في تقرير عنها نشر في هذه الصحيفة بتاريخ 21-6-2012 : (ثم استدعي لعمل تمثال الشهيد عدنان المالكي الذي أبدع في نحته أيضاً، ثم بدأ صراعه مع المرض حتى توفي عام 1958).
هل اقتصر دور المرحوم أكرم الشوا على صب البرونز كما تقول كثيرٌ من الروايات المنشورة لمعاصرين؟ أم إنه صمم التمثال ونحته وصبه بالكامل كما تقول كتابات غيرها، وكما يؤكد أقرباؤه؟ أم إنه أعاد صنعه وفق النموذج الذي صنعه فتحي محمد كما تشير بعض الوثائق الصحفية؟
وما سبق بمجمله حالة واحدة لحالات قد لا نعرف عددها. تؤكد مجتمعة حاجتنا لاستمرار العمل المشترك لتوثيق صحيح وخالٍ من الثغرات لتاريخنا التشكيلي.
سعد القاسم
التاريخ: الثلاثاء 17-9-2019
الرقم: 17076