الملحق الثقافي:إعداد: رشا سلوم
بعد ما يقارب الأربعين عاماً على الخروج من بيروت، ومعلقة مديح الظل العالي رائعة محمود درويش، ها هو أيلول من جديد يطل، وكل عام يهل، ولكن لماذا هذا العام أيلول مختلف، لماذا تحضر مديح الظل العالي بقوة إلى الواجهة، هل هي نبوءة الشاعر الذي كان رائياً حين كان النضال والأرض هما البوصلة؟
أم أنه لأمر آخر يتعلق بنا؟ كيف نقرأ النبوءات الشعرية التي جاد بها الإبداع؟ أسئلة كثيرة يمكن لأي أحد منا أن يقدم كل يوم إجابة عليها، وكل إجابة تختلف عن الأخرى، وحسب قراءته التي هي إعادة خلق للنص، ولكن ثمة نصوص لا تمكن أن تخلق منها أي قراءات أبداً، أما مديح الظل العالي، فهي اليوم ملحمة شعرية على جدار الزمن العربي الرديء، تقرع أجراس الصمت لعل أحداً ما يستيقظ. فهل نومنا دهري؟
وهنا نقتطف مقاطع من قصيدته الرائعة «مديح الظل العالي»:
بحر لأيلول الجديد
خريفنا يدنو من الأبواب
بحرٌ للنشيد المر
لمنتصف النهار
بحرٌ لرايات الحمام
لظلنا، لسلاحنا الفرديّ
بحرٌ للزمان المستعار
ليديكَ، كم من موجةٍ سرقت يديك
من الإشارة وانتظاري
ضع شكلنا للبحر
ضع كيس العواصف عند أول صخرةٍ
واحمل فراغكَ.. وانكساري
بحرٌ جاهزٌ من أجلنا
دع جسمك الدامي يصفق لخريف المر أجراساً
ستتسع الصحاري عما قليل
حين ينقض الفضاء على خطاك
كنا نقطة التكوين، كنا وردة السور الطويل وما تبقى من جدار
ماذا تبقى منك غير قصيدة الروح المحلّق في دخان القيامة
وقيامة بعد القيامة
خذ نثاري وانتصر في ما يمزق قلبك العاري
ويجعلك انتشاراً للبذار
قوساً يلّم الأرض من أطرافها
جرساً لما ينساه سكان القيامة من معانيك
انتصرْ
إن الصليب مجالك الحيويُّ
مسراك الوحيد من الحصار إلى الحصار
بحرٌ لأيلول الجديد. وأنت إيقاع الحديد
تدقُّني سحباً على الصحراء
فلتمطر لأسحب هذه الأرض الصغيرة من إساري
لا شيء يكسرنا، وتنكسر البلاد على أصابعنا كفخارٍ
وينكسر المسدس من تلهفكَ
انتصرْ، هذا الصباح، ووحد الرايات والأمم الحزينة والفصول
كلِّ ما أوتيت من شبق الحياة
بطلقة الطلقات… باللاشيء
وحدنا بمعجزة فلسطينيةٍ
نم يا حبيبي، ساعةً
لنمر من أحلامك الأولى إلى عطش البحار… إلى البحارِ
نم يا حبيبي ساعةً
حتى تتوب المجدلية مرة أخرى، ويتضح انتحاري
نم، يا حبيبي، ساعةً
حتى يعود الروم، حتى نطرد الحراس عن أسوار قلعتنا
وتنكسر الصواري
كي نصفق لاغتصاب نسائنا في شارع الشرف التجاري
نم يا حبيبي ساعةً حتى نموت
هي ساعة للانهيار
هي ساعة لوضوحنا
هي ساعة لغموض ميلاد النهار
كم كنت وحدك، يا ابن أمّي
يا ابن أكثر من أبٍ
كم كنت وحدكْ
القمح مرٌّ في حقول الآخرين
والماء مالح، والغيم فولاذٌ
وهذا النجم جارح
وعليك أن تحيا وأن تحيا
وأن تعطي مقابل حبة الزيتون جلدك
كم كنت وحدك
لا شيء يكسرنا، فلا تغرق تماماً
في ما تبقى من دمٍ فينا
لنذهب داخل الروح المحاصر بالتشابه واليتامى
يا ابن الهواء الصلبِ، يا ابن اللفظة الأولى على الجزر القديمة
يا ابن السيدة البحيرات البعيدة
يا ابن من يحمي القدامى… من خطيئتهم
ويطبع فوق وجه الصخر برقاً أو حماما
لحمي على الحيطان لحمك، يا ابن أمي
جسدٌ لأضراب الظلال
وعليك أن تمشي بلا طرُقٍ
وراء، أو أماماً، أو جنوباً أو شمال
وتحرّك الخطوات بالميزان
حين يشاء من وهبوك قيدك
ليزينوك ويأخذوك إلى المعارض كي يرى الزوار مجدك
كم كنت وحدك!
كم كنت وحدك!
هي هجرة أخرى
فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما
سقط السقوطُ، وأنت تعلو
فكرةً
ويداً
و… شاما!
لا بر ّ إلا ساعداك
لا بحر إلا الغامض الكحليّ فيك
فتقمص الأشياء كي تتقمص الأشياء خطوتك الحراما
**
حطوك في حجرٍ.. وقالوا: لا تسلم
ورموك في بئرٍ.. وقالوا: لا تسلم
وأطلت حربكَ، يا ابن أمي
ألف عامٍ ألف عامٍ ألف عامٍ في النهار
فأنكروك لأنهم لا يعرفون سوى الخطابةِ والفرارِ
هم يسرقون الآن جلدك
فاحذر ملامحهم… وغمدك
كم كنت وحدكِ، يا ابن أمي
يا ابن اكثر من أبٍ
كم كنت وحدك!
والآن، والأشياء سيدةٌ، وهذا الصمت عالٍ كالذبابه
هل ندرك المجهول فينا؟ هل نغني مثلما كنا نغني؟
سقطت قلاع قبل هذا اليوم، لكن الهواء الآن حامض
وحدي أدافع عن هواءٍ ليس لي
وحدي أدافع عن هواءٍ ليس لي
وحدي على سطح المدينة واقفٌ
أيوب مات، وماتتِ العنقاءُ وانصرف َ الصحابة
وحدي. أراود نفسي َ الثكلى فتأبى أن تساعدني على نفسي
ووحدي… كنت وحدي
عندما قاومت وحدي… وحدة الروح الأخيرة
لا تذكر الموتى، فقد ماتوا فرادى أو.. عواصم
سأراك في قلبي غداً، سأراك في قلبي
وأجهش يا ابن أمي باللغة
لغةٍ تفتش عن بنيها، عن أراضيها وراويها
تموت ككل من فيها، وترمى في المعاجم
هي آخر النخل الهزيل وساعةُ الصحراءِ
آخر ما يدل على البقايا
كانوا! ولكن كنت وحدك
كم كنت وحدك تنتمي لقصيدتي، وتمدّ زندك
كي تحوّلها سلالم، أو بلاداً، أو خواتم
كم كنت وحدك يا ابن أمي
يا ابن أكثر من أبٍ
كم كنت وحدك!
والآن، والأشياء سيدةٌ، وهذا الصمت يأتينا سهاماً
هل ندرك المجهول فينا. هل نغني مثلما كنا نغني؟
آه، يا دمنا الفضيحة، هل ستأتيهم غماما
هذه أمم تمرُّ وتطبخ الأزهار في دمنا… وتزداد انقساما
هذه أمم تفتش عن إجازاتها من الجَمل المزخرفِ
هذه الصحراء تكبر من حولنا
صحراء من كل الجهات
صحراء تأتينا لتلتهم القصيدة والحساما
هل نختفي فيما يفسرُنا ويشبهنا
وهل.. هل نستطيع الموت في ميلادنا الكحلي ّ
ويبقى محمود درويش هو الشاعر الفريد في تاريخنا المعاصر، لما له من قدرة على الوصول إلى المشاعر والعقل معاً.
التاريخ: الثلاثاء24-9-2019
رقم العدد : 966