الملحق الثقافي-عبد المعين زيتون:
ليس من أحد يستطيع الآن أن يشكك في دور المعلومات وأهميتها، ليس في التطور وحسب، بل وفي صناعة الوعي وإدارة الحياة بكل تفاصيلها ومستوياتها، الفردية والأسرية، والأهم المجتمعية.
المرحلة الهيروغليفية:
لقد عرف الإنسان الكتابة لأول مرة مع ظهور الكتابة الهيروغليفية، والتي تعني الرسوم والنقوش المقدسة في لغة المصريين القدماء، وهي الكتابة التي ظلت حكراً على الكهنة، فظلت وسيلتهم بدقة أكثر إلى احتكار المعرفة، فيما يخص قضايا معتقداتهم، وحياتهم.
ومن خلالها اختزنوا الكم الثقافي الذي تبادلوا فيه المعرفة والمعلومات فيما يتعلق بأمور العبادة، وطقوسها، وأسرار التحنيط ودفن الموتى، وتقاليد المعابد، كما تبادلوا أمور حياتهم الأخرى، وقد ساد هذا الوضع الرمزي القائم على الصور والرسومات، قروناً عديدة، إلى أن بدا عجز هذا النسق التعبيري واضحاً مع دخول التجارة على خطوط الحياة العامة للإنسان، فظهرت الأبجدية الفينيقية لتلبي الحاجات الجديدة، والمطالب الجديدة.
الأبجدية الفينيقية:
وبالفعل، فقد استطاعت هذه الأبجدية – أن تكون الوسيلة الأفضل بين الناس، بفضل طابعها الأبجدي – أن تعبر عن المفهومات المتكاملة المجردة للنشاطات التجارية المختلفة، من الخسارة والربح، وبيانات ومعلومات الملاحة والرحلات.
والميزة الكبرى في الأبجدية الفينيقية، أنها كانت إشاعة اللغة بين عدد أوسع من خلال تسجيل المعارف والعلوم على أساس أبجدي، من خلال الكتبة والكهنة معاً، وهو ما أنشأ سلطة جديدة، هي سلطة التجار على حساب سلطة الكهنة.
لقد سادت الأبجدية الفينيقية، بألواحها ولفائفها، ونسخها، وكتابها، حتى ظهور ٱلة الطباعة منتصف القرن الخامس عشر الميلادي.
ٱلة الطباعة:
ظهرت ٱلة الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر على يد يوهانس غوتنبرغ – كما هو معروف – فأحدثت تطوراً هائلاً في المجتمع الأوربي كله، وكان من أول نتائجها، تحرر الفرد من سلطة الكنيسة ورجال الدين التي كانت قائمة أصلاً على احتكار المعرفة الدينية وغير الدينية.
وليس قصدنا هنا الحديث عن فضل الطباعة وما أحدثته ٱلة الطباعة، إذ لا شك أن فضل الطباعة على الحضارة البشرية يحتاج لحديث طويل جداً.
لكن المهم هنا، أنها هي التي ساهمت في نشر المعرفة، وبدلت وظيفة المعلومات، فأسقطت دور الكنيسة، وسلطة الإقطاع، وسلطة المتحدث على المستمع المتلقي لمعارفه التي كان فيما مضى يأخذها شفاهاً منه مباشرة، وتحققت لأول مرة نشوة الإنسان مع كتابه المطبوع، الذي أصبح – أي الكتاب – وسيلته المعرفية الجديدة، وفرصته للتمعن والتفكر والتفكير الهادئ والمتأني في نصوصه وأفكاره، فنمت لديه النزعة النقدية، وبدأت تتقلص مساحات الأمية، وأخذ التعليم بالتطور، ومعه شتى العلوم.
ولم يقتصر فضل ٱلة الطباعة، والطباعة نفسها، على نشر المعرفة وحسب، بل تخطته إلى إنشاء أول نظام تكنولوجي تبناه أهل الصناعة، لتكتمل معه ركائز الحداثة، إلى جانب الطباعة، فظهرت الصناعة بإنتاجاتها الضخمة والتي مضت قدماً في خططها الحضارية بفضل المعرفة التي أشاعتها الطباعة، من جهة، وتكنولوجيا الصناعة التي أنتجتها بدورها هذه المعرفة من جهة أخرى.
الكمبيوتر وجدارة الآلة
وبعد خمسة قرون من اختراع الطباعة، وٱلتها الفذة، يظهر الكمبيوتر، في منتصف القرن العشرين، ليثبت من جديد، جدارته كٱلة خارقة، مقدرته اللامحدودة في معالجة المعلومات، وتوظيف المعرفة، لا مجرد نشرها، بعد النجاح – بواسطة البرمجة – في نقل المعرفة الخاملة من الأوراق، إلى معارف حية فعالة، يجري توظيفها اليوم، في تصميم الأبنية والمدن، والمحركات، والفنون والآداب الإنسانية وشتى العلوم الأخرى، والأزياء، وهي التي تضبط الحسابات، وتراقب الميزانيات، وتدعم صناعة القرار، وتعلم الكبير والصغير، وهي التي توجه الطائرات والصواريخ، والأقمار الإصطناعية، وتتحكم بالمفاعلات النووية.
وظائف إنسانية:
لقد بات الأمل قريباً اليوم أكثر من أي يوم مضى، معقوداً على المعرفة، التي تحررت وانصهرت في كيانات المجتمعات الإنسانية على وجه الأرض بفضل هذه النظم الآلية للمعلومات، في أن تعيد لهذه المجتمعات، وللإنسان فيها توازنه، وتسترد للإنسان إنسانيته وانسجامه وتصالحه مع نفسه، ووفاقه مع مجتمعه وبيئته، وذلك يعني أن تسود روح العلمية، وحرية الثقافة، مما يعطي الإنسان الحق، في التمسك بخصوصية ثقافته والحفاظ عليها، ويعطيه الحق بالمحافظة على هويته، واختيار نمط حياته وتنميته وحماية مجتمعه وبيئته.
فوظيفة هذه النظم العلمية الكبرى تأخذ بعدها الحقيقي في الإنسان نفسه، لأنها وصلت إلى ما وصلت إليه لنفع الإنسان وخدمته.
فهي التي ستقلص هيمنة الأقوياء على الضعفاء، وهي التي ستحد بالضرورة من سيطرة الإنسان على الطبيعة، التي لوثت معها الهواء والمياه والأخلاق، وأبادت الكائنات.
وإذا كانت تكنولوجيا الطباعة، قد أسقطت سلطة المتحدث على مستمعه، فربما يكون بمقدور تكنولوجيا المعلومات – وفق رؤية الكثير من الفلاسفة والمفكرين – أن تسقط سلطة وهيمنة الكاتب والمؤلف على القارئ، الذي يمكنه ٱنئذ أن ينتزع حقه في القراءة تبعاً لرؤيته هو وفهمه هو، وعلى النسق ذاته، يستطيع المتلقي للأشياء واللوحات وغيرها، أن يراها بعينيه، ليتلقى الأمور والحياة، متصالحة مع ما يتواءم مع تركيبته الفكرية والثقافية.
ولعل قادم الأيام هو ما سوف يجعلنا نحكم بدقة أكثر على معطيات ونتائج عصرنا الراهن، إلى أين يمضي بنا، ونمضي معه.
التاريخ: الثلاثاء12-11-2019
رقم العدد : 973