تصدع الأنظمة الاجتماعية الخيارات المحدودة لإنقاذ الرأسمالية

 

الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:

تواجه الشركات اليوم خياراً وجودياً، هي إما أن تحتضن وبقوة «رأسمالية أصحاب المصالح» stakeholder capitalism (1) والالتزام بالمسؤوليات المصاحبة لهذا الخيار عبر اتخاذ الخطوات الفاعلة لتحقيق الأهداف الاجتماعية والبيئية، أو الالتصاق بـ الأنموذج القديم لـ «رأسمالية أصحاب الأسهم» shareholder capitalism الذي يفضّل الأرباح القصيرة الأجل على كل شيء آخر، وفيه تبقى الشركات تنتظر العاملين والزبائن والناخبين لفرض التغيير عليها من الخارج.
هذا التقييم ربما يبدو قاسياً وصادراً من شخص ما يعتقد دائماً بالدور الحيوي للشركات في الاقتصاد العالمي، ولكن في الحقيقة، لا خيار غير ذلك. التأثيرات البيئية اتسعت إلى ما وراء إمكانية تحمّل الأرض. الأنظمة الاجتماعية تتصدع. الاقتصاد لم يعد يحقق نمواً عادلاً. الأجيال الشابة لا تقبل اليوم بما تقوم به الشركات في تحقيق الأرباح على حساب الرفاهية الاجتماعية والبيئية الواسعة. مع ادراكنا بأن اقتصاد السوق الحر ضروري لخلق تقدم اجتماعي وتنمية طويلة الأجل، ولا يجب أن نستبدل ذلك النظام، إلا أن الرأسمالية في شكلها الحالي وصلت إلى حدودها القصوى. وهي ما لم تباشر الإصلاح من الداخل، فإنها سوف لن تتمكن من البقاء.
من أصحاب الأسهم إلى أصحاب المصالح
في السنة الماضية، أعلنت منظمة المائدة المستديرة، وهي منظمة تمثل العديد من الشركات الأمريكية الكبرى بأنها تريد الانتقال من اتجاه هيمنة أصحاب الأسهم إلى اتجاه يتم فيه تبنّي مصالح كل الأطراف. إنها أعادت تعريف هدف الشركة في تعزيز «اقتصاد يخدم كل الأمريكيين» وليس فقط من يملك الأسهم.
الرؤساء التنفيذيون للشركات الذين وقّعوا على بيان المائدة المستديرة، كانوا بمثابة التجسيد الحقيقي للرأسمالية الأمريكية. كان هناك 181 رئيس شركة وقّع على البيان. هذا الإعلان جوبه بردود أفعال متباينة. البعض رآه فقط كمناورة لمواجهة الضغط من اليسار الصاعد. آخرون تجاهلوه كحركة مخادعة ورمزية تفتقر إلى الأفعال الملموسة. يسأل المشككون كيف يمكن لشركة أن تدّعي أنها أجرت تغييراً كبيراً إذا كانت تقاريرها الفصلية لاتزال تركز على تعظيم الأرباح؟ لكن هذا الشك يسيء فهم أهمية التغيير وإمكانية تحويله إلى تغيير حقيقي.
منذ عام 1997، كانت جميع المبادئ السابقة التي وافقت عليها المائدة المستديرة، قد وضعت مصلحة المساهمين قبل كل شيء. التخلي عن ذلك المبدأ كان عملاً ثورياً. ولكن صحيح أيضاً أنه ما لم تُترجم هذه الكلمات إلى أفعال جماعية، فإن الثورة ستكون قصيرة الأجل.
ما هي الشركة؟
إذاً ماذا يجب فعله لضمان أن يكون الانتقال إلى رأسمالية أصحاب المصالح حقيقي ودائم؟ للإجابة على هذا السؤال، من المفيد العودة للنظر في نظام الاقتصاد العالمي لما بعد الحرب والدور الذي لعبه عبر الشركات والحكومات والمجتمع المدني والمنظمات الدولية. البعض ربما يعتقد أن الرأسمالية الغربية وضعت أصحاب الأسهم دائماً في المقام الأول. غير أن ذلك ليس صحيحاً.
كان المنتدى الاقتصادي العالمي قد تأسس قبل خمسة عقود في دافوس لكي يعزز «مفهوم تعددية أصحاب المصالح» multistakeholder concept وهو الأنموذج الذي برز من معرفة كل من الاتجاهين الأوروبي والأمريكي للرأسمالية. الشركات الأمريكية في فترة ما بعد الحرب سعت إلى إنضاج الأعمال والإدارة المالية وتحقيق النمو والأرباح المثالية. إنها جعلت الشركات الأمريكية ومفكرو الإدارة الأمريكيين موضع حسد من العالم. لكن المدراء الأوروبيين في ذلك الوقت كانوا أيضاً في موقف صحيح. هم تميزوا بالوعي الاجتماعي الذي اتضح في الالتزام العميق تجاه عمالهم وزبائنهم ومجهزيهم. بعض المهنيين أكّدوا من خلال تجاربهم في عدة مصانع، أن العمال ذوي الياقات الزرقاء هم ذوي لياقة وقيمة للشركة مثلما هم زملائهم من العمال ذوي الياقات البيضاء أو المساهمين في الشركات التي يعملون فيها.
إن فكرة رأسمالية أصحاب المصالح تجسّد بيان دافوس الموقّع عليه من جانب المنتدى الاقتصادي العالمي الجديد. افتتاحية البيان أعلنت بأن «هدف الإدارة المهنية هو خدمة الزبائن والمساهمين والعمال والموظفين بالإضافة إلى المجتمعات، وتحقيق الانسجام بين مصالح جميع الأطراف».
بيان دافوس يعود في جذوره إلى تجربة ما بعد الحرب الأخيرة، لكنه كان أيضاً استعادة لأرشيف تاريخي طويل. الشركات كانت دائماً وحدات اجتماعية وكذلك وحدات اقتصادية. في الحقيقة، كانت الشركات تأسست أولاً في أوروبا أثناء القرون الوسطى كمحرك مستقل لتحقيق التقدم الاقتصادي، ولكن أيضاً لخلق الازدهار للمجتمع وبناء المؤسسات للصالح العام كالمستشفيات والجامعات، وهو ما نسميه «القيمة المشتركة».
لكن هذه الرؤية للشركات لم تلق قبولاً عالمياً. حيث أعلن في نفس الوقت، الاقتصادي في جامعة شيكاغو ملتون فريدمن عن رؤية مختلفة كلياً، «هناك فقط مسؤولية اجتماعية واحدة للأعمال لا غير»، وهي «أن تستعمل مواردها وتنخرط في فعاليات مصممة لزيادة أرباحها». عمل الأعمال، باختصار، كان عملاً. فكرة سيادة المساهمين قد وُلدت. وقبل وقت طويل، كانت الفكرة احتُضنت من جانب المائدة المستديرة وقادة آخرون في الحقل.
الحقائق غير المريحة
كانت رأسمالية المساهمين تبدو حقاً متفوقة على رأسمالية أصحاب المصالح. الشركات الأمريكية بسطت سيطرتها، وأصبحت هيمنة المساهمين هي العقيدة السائدة في الأعمال الدولية. لكن النمو العالي في الثمانينات والتسعينات، وفي بداية هذا القرن، أخفى بعض الحقائق المزعجة. الأجور في الولايات المتحدة بدأت بالركود منذ أواخر السبعينات فصاعداً، قوة الاتحادات تراجعت بشكل كبير مصحوبةً بتدهور في البيئة الطبيعية مع تحسن الاقتصاد. والحكومات وجدت من الصعب جمع الضرائب من الشركات متعددة الجنسية. كل تلك المشاكل اجتمعت في الأزمة الحالية، وإن الجواب المهم الوحيد هو العودة إلى رأسمالية أصحاب المصالح التي كانت استُبدلت بأنموذج المساهمين.
في العقود الأربعة منذ الثمانينات، تزايدت بشكل كبير اللامساواة من كل الأشكال. في الولايات المتحدة كان نمو الدخل لدى 90% من الناس الذين هم في أسفل السلّم تقريباً صفر، بينما الدخل لدى الفئة في أعلى السلّم ارتفع خمسة أضعاف. اللامساواة في الثروة زادت بشكل كبير. كانت الميول مشابهة في كل مكان من العالم. في الستينيات، كان الرئيس التنفيذي للشركة يستلم 20 مرة أكثر من راتب العمال لديه. أما اليوم، فإن الرئيس التنفيذي الأمريكي يستلم بمعدل 287 مرة أكثر من متوسط الرواتب.
وفي نفس الوقت، نمت الشركات الرائدة في العالم بشكل متصاعد، مما قاد إلى زيادة قوة السوق وتغيير في علاقة الشركات مع الجاليات والحكومات، بينما بدا ارتباط الشركات بالجاليات والذي كان عميقاً في يوم ما يتضائل بمرور الزمن. وعندما استغلت الشركات بذكاء حقوق الملكية والتحويل السعري العالمي، أصبحت العديد من الشركات المندفعة بتعظيم الأرباح غير موثوق بها في دفع الضرائب. ومع نمو القطاع المالي المنفصل عن النمو الاقتصادي، تبع ذلك نتائج قصيرة الأجل وأضرار في الاستدامة الطويلة المدى.
المحصلة الكلية من كل ذلك كان تدهور الروابط بين الشركات والمجتمع. أما الحكومات، التي تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية جديدة، فقد باتت غير قادرة على إنجاز الاستثمارات المطلوبة، فحُرمت من العوائد الضريبية الضرورية.
أخيراً، وربما الأكثر أهمية، استمرت البيئة تعاني من الفعاليات الاقتصادية المتحفزة فقط لأجل تعظيم الأرباح. في دافوس عام 1973، تحدّث الناطق عن نادي روما عن «حدود وشيكة للنمو». بيان دافوس لاحظ أن الإدارة «يجب أن تفترض دور الوصي على العالم المادي لأجيال المستقبل» و»تستخدم الموارد المادية وغير المادية التي لديها بطريقة مثالية».
نحن ندرك الآن أنه لو بقي استخدامنا لموارد العالم الطبيعية عند مستويات بداية السبعينيات، لما واجه العالم أزمة المناخ الحالية. طبقاً لشبكة البصمة العالمية Global Footprint Network (2)، كان عام 1969 العام الأخير الذي كانت فيه البصمة (تأثيرالإنسان على البيئة) الإيكولوجية للبشرية صغيراً بما يسمح بالاستدامة. ولكن منذ ذلك الوقت، كنا باستمرار نتجاوز هذا الحد. الآن، في عام 2020، نحن نستعمل موارد حجمها حوالي ضعف النسبة المطلوبة للاستدامة.
الفرصة الأخيرة
مع تحذير الشباب لنا في كل العالم من التأخير، حان الآن وقت إصلاح الخطأ التاريخي. الطريقة الوحيدة لإنقاذ الرأسمالية هي في العودة إلى أنموذج أصحاب المصالح، الذي اكتشفناه ونسيناه منذ عقود. ولكن مع الموقف الاجتماعي والاقتصادي والبيئي الحالي الذي هو أسوأ بكثير مما كان، سنحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى خلق تغيرات تذهب أبعد من الكلمات. ولكن كيف يمكن القيام بهذا؟
في البدء، الشركات ومساهموها يجب أن يتفقوا على رؤية بعيدة المدى حول أهدافهم وأدائهم، بدلاً من جعل النتائج الفصلية للشركة تقرر كل شيء. من هنا، يجب على الشركات أن تتبنّى التزاماً ملموساً لدفع أسعار عادلة، ورواتب وضرائب في الأماكن التي تعمل بها. وأخيراً، يجب علينا أن ندمج المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في أنظمة المراجعة والتقارير الرسمية للشركات.
هذه الخطوات سوف تتطلب تغيرات كبرى. لكن البديل عن ذلك سيكون أصعب وأكثر ألماً. الشركات ستُجبر بواسطة الأجيال الجديدة من العمال والمستهلكين والناخبين على تغيير طرقها سواء رغبت بذلك أم لم ترغب. العديد من الشركات التي ترفضها هذه المجموعات، سوف تضمحل ببطء، أو أن الحكومات قد تتخذ إجراءً ثقيلاً في فرض العقائد الجديدة وإعادة تأكيد نفسها كمرشد ضخم في الأسواق.
إذا كانت الشركات تريد تجنّب هذه السيناريوهات، فإن عام 2020 سيكون عاماً مصيرياً. في منتدى الاقتصاد العالمي، سوف يستمر التشجيع والحث على رأسمالية المصالح مع التزام واضح وملموس لجعلها شاملة ودائمة. هذه ربما الفرصة الأخيرة لإصلاح الرأسمالية من الداخل.
‏ Capitalism must Reform to survive، الشؤون الخارجية Foreign Affairs Jan/Feb 2020
……….
الهوامش
(1) في هذا النظام تتجه الشركات لخدمة مصالح جميع الأطراف ذوي العلاقة بالشركة والذين هم المستهلكون والمجهزون والعاملون والمساهمون والجاليات المحلية. في ظل هذا النظام يكون هدف الشركة هو خلق قيمة طويلة الأجل وليس مضاعفة الأرباح أو تعزيز قيمة المساهمين على حساب مصالح الجماعات الأخرى. المؤيدون لرأسمالية أصحاب المصالح يعتقدون أن خدمة مصالح جميع الأطراف وليس فقط أصحاب الأسهم، هي ضرورية للنجاح الطويل الأمد لأي شركة.
‏(2) Global Footprint Network هي منظمة تتألف من عدد من الخبراء والباحثين المستقلين، تأسست عام 2003 في الولايات المتحدة وبلجيكا وسويسرا. هي نشأت في الأصل كمنظمة خيرية غير ربحية في كل من تلك الدول الثلاث. هذه المنظمة تضع أدوات ووسائل لتطوير الاستدامة بما فيها الاستدامة البيئية، حيث تقيس كمية الموارد التي نستعملها والكمية المتبقية لدينا. تلك الوسائل تهدف إلى جلب الحدود الإيكولوجية إلى مركز صنع القرار.

 

التاريخ: االاثنين27-1-2020

رقم العدد : 984

آخر الأخبار
"لأجل دمشق نتحاور".. المشاركون: الاستمرار بمصور "ايكو شار" يفقد دمشق حيويتها واستدامتها 10 أيام لتأهيل قوس باب شرقي في دمشق القديمة قبل الأعياد غياب البيانات يهدد مستقبل المشاريع الصغيرة في سورية للمرة الأولى.. الدين الحكومي الأمريكي يصل إلى مستوى قياسي جديد إعلام العدو: نتنياهو مسؤول عن إحباط اتفاقات تبادل الأسرى إطار جامع تكفله الإستراتيجية الوطنية لدعم وتنمية المشاريع "متناهية الصِغَر والصغيرة" طلبتنا العائدون من لبنان يناشدون التربية لحل مشكلتهم مع موقع الوزارة الإلكتروني عناوين الصحف العالمية 24/11/2024 رئاسة مجلس الوزراء توافق على عدد من توصيات اللجنة الاقتصادية لمشاريع بعدد من ‏القطاعات الوزير صباغ يلتقي بيدرسون مؤسسات التمويل الأصغر في دائرة الضوء ومقترح لإحداث صندوق وطني لتمويلها في مناقشة قانون حماية المستهلك.. "تجارة حلب": عقوبة السجن غير مقبولة في المخالفات الخفيفة في خامس جلسات "لأجل دمشق نتحاور".. محافظ دمشق: لولا قصور مخطط "ايكوشار" لما ظهرت ١٩ منطقة مخالفات الرئيس الأسد يتقبل أوراق اعتماد سفير جنوب إفريقيا لدى سورية السفير الضحاك: عجز مجلس الأمن يشجع “إسرائيل” على مواصلة اعتداءاتها الوحشية على دول المنطقة وشعوبها نيبينزيا: إحباط واشنطن وقف الحرب في غزة يجعلها مسؤولة عن مقتل الأبرياء 66 شهيداً وأكثر من مئة مصاب بمجزرة جديدة للاحتلال في جباليا استشهاد شاب برصاص الاحتلال في نابلس معبر جديدة يابوس لا يزال متوقفاً.. و وزارة الاقتصاد تفوض الجمارك بتعديل جمرك التخليص السبت القادم… ورشة عمل حول واقع سوق التمويل للمشروعات متناهية الصغر والصغيرة وآفاق تطويرها