تدخل الثورة الإسلامية الإيرانية عامها الواحد والأربعين محققة إنجازات مهمة انطلقت من مشروع واضح انتسب إليها وانتسبت إليه وتصالحت مع نفسها في حيثياتها وتفاصيله وحددت وحسمت منذ ما قبل نجاحها هويتها الفكرية والعقيدية بوضوح وشفافية ودونما مواربة وعرفت أعداءها قبل أصدقائها وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني وقوى الاستكبار العالمي وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية التي وصفها خطاب الثورة بالشيطان الأكبر وانسجاماً مع مبادئها ومصداقيتها طردت سفير الكيان الصهيوني وافتتحت أول سفارة لفلسطين في سابقة لم يقدم عليها أحد من قبلها، ووصف قائد الثورة الإسلامية الإمام الخميني الكيان الصهيوني بالغدة السرطانية التي يجب اجتثاثها فكانت القضية الفلسطينية أحد عناوين الثورة وأعمدتها الأمر الذي تكرس طيلة مسيرتها المظفرة خلال واحد وأربعين عاماً خلت.
إن ما يحتاج إلى وقفة تحليلية لاستخلاص العبر والدروس هو نهج ومسار الثورة الإسلامية الإيرانية والاستراتيجيا التي يتبعها نظام الحكم فيها والدبلوماسية الذكية أو دبلوماسية الأبواب المفتوحة (الانفتاح الواثق) وهي سمة ملازمة لها منذ قيام الثورة عام ١٩٧٩ فعلى الرغم من أن النظام السياسي في طهران أفصح عن هويته من خلال تحديد وتشخيص من هو العدو ومن هو الصديق انطلاقاً من عقيدة آمنت بها الثورة إلا أن هامش المناورة كان واسعاً أمام الساسة الإيرانيين في إطار تحقيق المصالح العليا للشعب الإيراني مع الحفاظ على ثوابت الجمهورية الإسلامية الإيرانية كي لا تخسر مصداقيتها أمام حلفائها وكذلك قاعدتها الاجتماعية الواسعة.
لقد انطلقت السياسية الخارجية من حقيقة أن إيران دولة مهمة بحكم موقعها الجغرافي وثرواتها الاقتصادية وتاريخها وحضارتها العريقة ونفوذها الإقليمي والدولي فأضافت الثورة إلى تلك الحقائق عناصر القوة العسكرية الذاتية والاقتصادية وتنظيم المجتمع وجاذبية الثورة كفكرة ونموذج واستطاعت أن تتعامل مع مفردات الحداثة وعناصر الحكم بدرجة عالية من الانفتاح مع الحفاظ على هوية الثورة وطابعها الإسلامي فأنشأت نظاماً سياسياً زاوج بين مستلزمات الديمقراطية وآلياتها وخصوصية الثورة وطبيعة المجتمع الإيراني وقدمت نموذجاً في الحكم يغطي رسائل واضحة مؤداها أن الإسلام كنظام سياسي وأسلوب حكم ليس فعلاً ماضياً وإنما يمكنه التعاطي مع المدرسة السياسية الحديثة في الحكم والإدارة وقيادة المجتمع، وإلى جانب ذلك أدركت الثورة الإسلامية الإيرانية التي جاءت بمشروعها وحلمها أن العالم المعاصر لا يختلف كثيراً عما سبقه في إطار العلاقات الدولية فمع وجود هيئات دولية ومنظمات تحكمها قواعد قانونية وأخلاقية وشرعية دولية إلا أن عنصر القوة العسكرية والاقتصادية والنفوذ السياسي هي الفاعلة في الساحة الدولية وإدارة الصراعات وعلى كل المستويات من هنا كان تركيز الثورة الإسلامية على بناء قاعدة علمية ومعرفيه واقتصادية لتكون الأساس المتين للحفاظ على الدولة الإيرانية ونظامها السياسي إدراكاً منها أن الغرب الثقافي الاستعماري لا يريد أو يرغب بقيام دولة مشرقية عربية أو إسلامية تمتلك عناصر القوة الذاتية التي تمكنها من تحصين وامتلاك قرارها الوطني السيادي وتخرجها من حالة الاستلاب للقوى الخارجية.
وإعمالاً لهذه الاستراتيجية اتبعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية دبلوماسية هادئة ومنضبطة وخطاباً سياسياً واضح الملامح عززته منهجية وسلوك سياسي متطابق تمام التطابق مع مفرداته ومضامينه ما أكسب نظام الحكم في إيران مصداقية عالية لدى حلفائه وأصدقائه وشكل الأساس لبعد استراتيجي في العلاقة بينهما في الوقت الذي شكل فيه خوفاً وفزعاً وإرباكاً وصداعاً سياسياً لمعسكر أعداء الثورة وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني والغرب الاستعماري وتوابعه وأدواته الرجعية مستلبة الإرادة في المنطقة العربية والإقليم على وجه العموم إدراكاً منهم جميعاً لدرجة مصداقية الثورة الإسلامية ونفوذها الواسع في العالم.
لقد فتحت الثورة الإسلامية الإيرانية الأبواب المحكمة مع الجميع عدا العدو الصهيوني وأعوانه وأدواته حيث جاهرت بعدائها له انطلاقاً من موقف عقائدي أو عقيدي وقدمت الدعم العسكري والمالي والسياسي لكل من وقف في مواجهته من قوى مقاومة له سواء أكانت تنظيمات أم دولاً وفي كل الظروف التي مرت بها حتى زمن الحرب العراقية الإيرانية وظروفها الصعبة وما أعقبها من حصار ظالم على الشعب الإيراني تحت حجج واهية وكاذبه أساسها وجوهرها الهوية السياسية للثورة الإسلامية وخطها السياسي الواضح.
إن عجز الغرب الاستعماري والكيان الصهيوني عن حرف الثورة عن مسارها أو إسقاط نظامها السياسي وحرفها عن ثوابتها وخطها الواضح على الرغم من كل أشكال الاستهداف التي اتبعها من التحريض على الحرب عليها وإزكاء نارها إلى الحصار الاقتصادي إلى استهداف العلماء والقادة الإيرانيين وصولاً لمحاولة ثنيها عن امتلاك وسائل العلم والتقانة الحديثة المتمثل باستهداف برنامجها النووي السلمي ناهيك عن حملة التحريض الطائفي والمذهبي بهدف الوقيعة بين إيران وجيرانها العرب كل هذه الاستراتيجيا الخبيثة والعدوانية واللاأخلاقية لم تجدِ نفعاً في التأثير على خط سير الثورة ومحاولة حرفه أو إسقاطه لهذا كله لم يكن أمام الغرب إلا الجنوح لمبدأ الحوار مع السلطة السياسية في إيران والاعتراف بشرعية نظامها وأهليته الدولية وقبول إيران في النادي النووي والتعامل معها من موقع الندية لا التابعية واحترام مصالح شعبها وقرارها الوطني المستقل والأكثر من ذلك الاعتماد عليها في الحرب على الإرهاب والمساهمة في حل قضايا المنطقة وأزماتها واعتبارها شريكاً أساسياً في رسم خرائط جديدة للمنطقة والعالم تتأسس على مبدأ الشراكة لا الهيمنة والاستئثار.
لقد استطاعت الثورة الإسلامية منذ انطلاقتها أن تجد حلفاء حقيقيين لها كان في مقدمتهم الجمهورية العربية السورية وكذلك القوى الثورية الفلسطينية المؤمنة بنهج المقاومة كخيار وحيد ونهائي في مواجهة العدو الصهيوني والمقاومة الوطنية اللبنانية ودول وقوى كثيرة في العالم جمعتها معها قواسم في العداء للهيمنة واحترام كرامة الإنسان وسيادة الدول ما مكن من جعل إيران دولة فاعلة في المشهد الدولي تمتلك القرار الوطني المستقل الذي تؤيده قوة عسكرية وسلاح ردع استراتيجي وقاعدة شعبية واسعة وحلفاء صادقون على مستوى العالم الأمر الذي جعل من إيران الدولة الوحيدة في العالم التي ترد على الاعتداءات الأميركية بشكل مباشر وبندية غير مسبوقة ما أكسبها المزيد من الاحترام والهيبة على المستوى العالمي.
إن النهج الإيراني في السياسة وقيادة المجتمع وفن إدارة الصراع يستحق أن يطلق عليه -النموذج الإيراني- ليكون الراشدة للكثير من دول المنطقة التي سلمت الغرب كل عناصر قوتها وارتهنت له سياسياً وعسكرياً واستلبت وطنياً ما جعلها تتسول مساعدته لها وحمايته لأنظمتها دون أن تدرك – ومع الأسف – أن لا أخلاق في السياسة وإنما هي القوة والمصالح والنفوذ والتكتل.
د. خلف المفتاح
التاريخ: الاثنين 10-2-2020
الرقم: 17189