د.ثائر زين الدين
زمنَ السلم… زمن السرّاء… زمن السعة والخير ترى الجميعَ أبطالاً، فرساناً، أصحاب أيادٍ بيضاء، لكن النائبات هي التي تكشفُ معادن هؤلاء الناس، كم من تاجرٍ مثلاً قدمّ نفسه ملاكاً منقذاً لبني قومهِ ومُحسناً جواداً، حتى إذا ألمّت ملمةّ ببلدهِ فَرّ بأمواله وأسرته، تاركاً مواطنيه يعانونَ الأمرين، وكم من أمثالهِ كانوا عوناً للمصيبةِ على بني قومه فتاجروا بقوتهم…و بمصائرهم… ألم تفرز الأزمة التي عاشتها سورية عشرات الكائنات التي أثرت على حساب الناس؟ هذا تاجر بالمازوت والبينزين، وذاكَ بالسلاح، وذلكَ بالمخدرات… وغيرهم بأجساد البشرِ وبما لا نستطيعُ أن نتصوّره… ومجموعةٌ عاثت فساداً بمؤسساتِ الوطن ونشرت قيم الرشوة والاختلاس والنهب….
حتى بين بعض المثقفين والمفكّرين والكتّاب نستطيعُ أن نجد أمثال هؤلاء ولكن مجالَ نشاطهم وساحات عملهم مختلفة… ولعلّها لا تقلُّ خطورةً وفداحةً … وبالمقابل تجد بين هؤلاء … وليسوا قلّةً بالمناسبة، من يذكركَ بنموذجٍ رسمه الكاتب الطبيب أنطون تشيخوف ذات يوم…وقد ذكرني بذلك كاتبٌ عراقيٌ يعيش في روسيا حين كتبَ منذ أيام مُذكراً القارئ العربي بحادثةٍ تبيّن أن الشعور الإنساني … الشعور بوحدة مصير الكائن البشري لا يتجزأ، هاهوذا الكاتب الكبير تشيخوف يتلقّى دعوةً من الناشر المعروف سوفورين لزيارة فيينا في ظرفٍ حالكٍ خطير تعيشه روسيا يومذاك فيكتبُ تشيخوف رسالته رداً على الدعوة
في 16 اغسطس 1892 – والترجمة للمترجم هوشياري
و ليست لي- :” حسناً ، أنا على قيد الحياة ، وبصحة جيدة . كان الصيف جميلاً ، جافاً ، ودافئاً ، وثمار الأرض وفيرة . ولكن أنباء انتشار الكوليرا أفسدت كل شيء . … أنت تدعوني الى ( فيينا ) ، في حين انني الآن أعمل طبيباً محليا في منطقة ( سيربوخوف) وأكافح الكوليرا ، ومسؤول عن قطاع فيه (25) قرية ، و(4) مصانع ، وديراً واحداً .
استقبل المرضى صباحاً ، ثم أبدأ جولتي ، أعالج المرضى والقي محاضرات عن الكوليرا، وأغضب لأن الإدارة المحلية لم تعطني كوبيكاً واحداً لشراء مستلزمات المكافحة . أتوسل الى الأغنياء للتبرع لشراء الأدوية ومواد التعقيم . لقد تحولت الى متسولٍ ممتاز بفضل بلاغتي البائسة … والآن فان القطاع الذي اتولى مكافحة الكوليرا فيه ، يمتلك نقطتين ( مركزين ) صحيين ممتازين، تتوافر فيها كل التجهيزات الطبية اللازمة ، وخمسة مراكز بائسة . لقد أنقذتُ الإدارة المحلية من توفير مواد التعقيم ذات الرائحة الكريهة ، وطلبتها من الشركات المصنعة بما يكفي ل(25) قرية . أشعر بالإرهاق والضجر . أنا لا املك نفسي ، بل افكر بمرضاي . أجفل في الليل من نباح الكلاب ، ومن الطرقات على البوابة : هل جاؤوا لاستدعائي ! . ركوب الخيول المثيرة للإشمئزاز على طرق غير معبدة . أنا الآن لا أقرأ ، الا ما يتعلق بمرض الكوليرا .
الوباء وصل الى مدينة موسكو وتوابعها ، ولكنه أخذ يتراجع بفضل الإجراءات الحازمة للسلطات . المثقفون لم يألوا جهداً ، وضحوا بأمولهم وراحتهم . أراهم كل يوم وأنا معجب بهم . في منطقة ” نيجني ” يقوم الأطباء – وهم أناس مثقفون – بمعجزات .
لقد شعرت بالرعب عندما قرأت عن وباء الكوليرا في الأيام الخوالي ، حين كان الناس يمرضون ويموتون بالآلاف ، ولم يدر بخلدهم ، حتى ان يحلموا بتلك الانتصارات المذهلة التي تحدث اليوم أمام أعيننا . من المؤسف انك لست طبيباً ، ولا يمكنك ان تشاركني مشاعري ، أي أن تشعر وتدرك وتقدّر ما بذل من جهد في الحملة” . هذه رسالة تشيخوف رداً على دعوةٍ إلى فيينا الجميلة… في ظرفٍ خطير، فلماذا لم يفر الرجل من الكوليرا، من الوطنِ المريض؟؟ لا ريب أن بيننا من هم مثل أنطون تشيخوف وستثبتُ الأيام القادمة ذلك…
وبيننا أيضاً من يبيعونَ أهلهم بثلاثين فضيّة…
ويبقى الزمن من ناحية… وضمير الشعب من ناحية ثانية هما من يحكمان على هؤلاء الناس…