ثورة أون لاين – هفاف ميهوب:
لاشكَّ أن تطور الإنسان الآلي، قد أفقده أحاسيسه وعلاقاته وحصرهُ ضمن صراع المصالح الكوني-اللاإنساني.. الصراع الشرس الذي قزّمه وجعلهُ، مجرّد لولبٍ في آلةٍ ضخمة تسعى لتحقيق أطماع المتحكمين بهِ وبعالمه..
إنه الصراع الذي شهده العالم، مُذ اقتيدَ إلى الحروب وأُجبر على العيش في متاهتها، ومُذ بدأ يسير نحو النهاية التي سحقتهُ فيها الآلات التي باتت تهيمن على المجتمعات، وبطريقةٍ نقرأ عن تقنيّتها:
«سيكون الإنسان مغلولاً في المجتمع التقنيّ، لكنه لن يموت في الأغلال، فهذا المجتمع يستطيع ابتداع رفاهية، لكنه لا يستطيع خلق الفكر، ومن دون الفكر، لا توجد العبقرية، ومجتمع محروم من رجالٍ عباقرة، هو مجتمع محكومٌ بالفناء»..
حتماً هو ما نعيشه، ولم نتوقع أن يحمل كل هذه الأحداث التي أفقدتنا أحلامنا وأحاسيسنا وأزهقت أرواحنا.. كلُّ هذه الحروب التي أدمتنا وعمَّقت جراحنا..
نعم، هو ما لم نتوقعه وتوقعه الكاتب والمستشرق الروماني “قسطنطين جيورجيو” الذي عاش “الساعة الخامسة والعشرون”.. عاشها ودوّن تفاصيلها التي تحكي عما يعانيه الإنسان في ظلِّ الآلة وهيمنة وحوشها، الذين هم وللأسف مواطنون..
«ظهرت في الآونة الأخيرة حيوانات جديدة على سطح الأرض، وهي لا تعيش في الغابات أو الأدغال، بل في المكاتب.. مع ذلك، فهي أشد قسوة ووحشية من الحيوانات المفترسة.. إنهم “مواطنون” يتصرفون كما تتصرف الآلات، وهم كالوحوش الضارية في سعيهم لاقتناص الرغبات»..
هذا ما تحكي عنه الرواية التي انصب اهتمامها، على مصير الإنسان في ظلِّ هيمنة الآلة التي جعلته فريستها.. الإنسان الذي عانى ما عاناه بطل الروية الذي لم يتوقع عندما فكرَ بالهجرة إلى أرض الأحلام الأميركية، بأن شياطينها المتوحشة ستجرّده من مشاعره وعلاقاته وآدميّته، وتحوله إلى كائنٍ جامد يكرِّر ذاته بطريقةٍ خانقة ومادية..
هذا ما تحكي عنه الرواية التي تعقّب كاتبها مصير شخصياته في ظلِّ الحداثة الغربية التي قهرت الإنسان، وعبرَ ملاحظاته لما رافق الحرب العالمية الثانية من التمييز العرقي والديني والإيديولوجي، الذي جعل من الصعب على الإنسان النجاة من الهلاك المأساوي للبشرية، في ظلِّ الإيديولوجيات الشمولية، والحروب العبثية، والكراهية العرقية..
يحكي “جيورجيو” في روايته عن كلّ ذلك، بطريقة تُشعر القارئ بأن “الساعة الخامسة والعشرون” هي الساعة التي سيتعذَّر على الإنسان بعدها، أن ينجو من هلاكٍ مؤكد.. إنها ما بعد الساعة الأخيرة، وحين لا يجدي شيئاً أمام انفجارِ الثورة التقنية، التي حوَّلت البشر إلى أرقام وآلاتٍ وأوراقٍ وكائنات آلية..
باختصار، الرواية رسالة ملحمية في تفاصيلها التي بيَّنت مقدار مأساوية العالم الغربي، بل انهياره الإنساني لا تفوقه الآلي. المأساوية التي جعلت الكاتب يتخيّل النهاية المرعبة لعالمٍ، لم يتصوره بشري أو حتى آلي، بل “رقيقٌ حداثوي” سيتمرد على الحضارة التي أنتجته، وعلى الظلم والحقد والعنف الذي مارسته، وإلى أن تكون النهاية التي تُخطِّط لها القوى العالمية غير أخلاقية أو إنسانية.. إلى أن تكون، وكما قال في تقمُّصه للشخصية الإصلاحية:
«العالم أوشك على دخول ساعته «الخامسة والعشرون» وهي الساعة التي لن تُشرق الشمس بعدها على الحضارة البشرية.. الساعة التي سيتحوَّل فيها البشر إلى أقليةٍ عاملة لا تفكر، ولا وظيفة لها غير إدارة جحافل الآلات وصيانتها وتنظيفها»..
بيدَ أن كلّ ما أوردناه عن هذه الرواية التي أحدثت ضجّة كبيرة في كلّ أنحاء أوروبا، هو ما جعلها ممنوعة فيها من النشر، ولسنواتٍ طويلة انتشرت بعدها رسالة كاتبها:
«الخامسة والعشرون، ساعة لم تنقضِ فيها الأعمال المأساوية التي ليست خيالية، لأنها في جزئها الأكبر من الحقيقة، صورةٌ عن واقعٍ تكاد تطابقه تماماً، وهو في قوة التخيل أعلى قيمة منها، لأنه فاق الخيال في أحداثه المُهلكة جداً..».