ثورة أون لاين – فؤاد مسعد:
لعل من العوامل التي تُسهّل إجراءات البقاء في المنزل وسط التدابير الاحترازية للوقاية من فيروس كورونا إتاحة مشاهدة طيف من الأفلام السينمائية المتنوعة التي ينتمي كل منها إلى مدرسة سينمائية مختلفة عن الأخرى، وتمثّل تجارب متعددة لكل مخرج فيها رؤيته وأسلوبه، الأمر الذي قامت به عدة منصات ومؤسسات معنية بالشأن السينمائي، وضمن هذا الإطار أطلقت المؤسسة العامة للسينما الشهر الماضي مبادرة (السينما في بيتك) أتاحت من خلالها مشاهدة عدد من أحدث إنتاجاتها أمام الجمهور في المنازل عبر منصة العرض (فيميو)، ومن الأفلام التي أتاحت مشاهدتها مؤخراً الفيلم الروائي الطويل (الرابعة بتوقيت الفردوس) تأليف وإخراج محمد عبد العزيز، تمثيل: أسعد فضة، غفران خضور، محمد آل رشي، نوار يوسف، رنا ريشة، سعيد عبد السلام، سامر عمران، يارا عيد، انطوانيت نجيب، جوان خضر، كنان حميدان، ربا الحلبي، زياد رمضان، مجد فضة، نغم نعيسة ..
ينتصر الفيلم للإنسان الموجوع كيفما كان عبر محاولة لالتقاط التفاصيل الهاربة، تلك التفاصيل التي تشكل لوحة موزاييك مُتعبة لحكايات تجري أحداثها خلال ساعات ولكنها تغوص عميقاً في مشاعر إنسانية للعديد من الشخصيات التي تعكس حال ذلك الموزاييك بشكل أو بآخر، هي لوحة بدت مفككة الأجزاء أعاد المخرج بناءها وتركيب كل قصة فيها وفق رؤيته الخاصة لتشكل في مجموعها مشهداً كاملاً يضم كل تلك التفاصيل القاسية .
نتابع عبر ساعات معدودة (هي مدة زمن أحداث الفيلم) مصائر شخصيات حاك المخرج قصصها بعناية لتكون رحلة ألم، منها المرأة المصابة بالسرطان التي تنتظر دنو ساعتها بقلب مقهور وتعيش على انقاذ حب، وقد بدا موقفها واضحاً منذ المشهد الأول فهي تجلس على حافة نافذة غرفتها في الطابق العلوي من المستشفى تُدخِّن سيجارتها وكأنّها تسخر من الموت وغير آبهة بالحياة التي لم تعد تعني لها شيئاً، ومُثقّف موسيقي كان معتقلاً فيما سبق بسبب وشاية من أقرب صديق، وفنانة حالمة تضج بالطموح والأمل والحيوية تتحول في لحظة إلى ضحية تفجير، وزوج مقهور يجرُّ العربة بعد موت حصانه العجوز لاهثاً وباحثاً وسط الهزائم المتلاحقة عن ثمن دواء لزوجته فلا يجد أمامه إلا احتمال بيع كليته، ولكنه يقضي دون ذلك، وشاب فقد كل شيء في الحرب ليجد في السفر بديلاً رغم تردد زوجته وتمسكها بالبقاء وإصرار والده (عامل الرافعة) على عدم السفر، ورجل آخر تولد زوجته وسط الطريق، وامرأة عجوز لا تزال تعيش فترة رومانسية عبد الحليم حافظ منفصلة عن الواقع وأوجاعه، بالإضافة إلى شخصيات أخرى مرت في الفيلم كان لها دورها في استكمال اللوحة.
هو شريط سينمائي مشغول بذكاء صيغت مفرداته من رحم الواقع بتكثيف عالٍ حمل الكثير من الدلالات والرموز التي كان لها بعدها في الفيلم (الأفعى التي بدأ وانتهى الفيلم منها، الرقص بثوب ناصع البياض، الكباد، الرمان، المستشفى ..) ، حتى مشاهد الحب أتت مسروقة من أنين الألم مُكبّلة ومخنوقة، هي شخصيات عبّرت في مجملها عن جنون الحياة، من خلال حكايات اعتمد المخرج في ايصالها إلى المشاهد على طريقة مختلفة في السرد، وبرز فيها أسلوبه في تحليل وفهم اللقطة وإخراجها معتمداً على تركيب الصور بطريقة ظهر فيها المونتاج بطلاً حقيقياً، له تأثيره وفاعليته في طرح الأفكار والرؤى عبر تقطيع المشاهد وإدراجها وفق إطار محدد لإبراز الفكرة المراد إيصالها وجعل المشاهد في حالة من الترقب الدائم.