تعودت بيوت الأزياء الراقية أن تقدم خدماتها الى زبائنها، وهم غالباً من الأثرياء، أو ممن ينعمون بنصيب مهما كان قليلاً من ترف العيش لتزودهم بالثياب المتقنة تصميماً، والمتميزة بأجود أنواع الأقمشة، وهي تمهرها باسمها الذي يعتبر علامة تجارية مميزة.. وهذه الأزياء الراقية على جودتها فإنها أيضاً إعلان، وإخبار ممن يرتديها على أنه يملك المال الكافي، مع الذوق الراقي.
إلا أن دور الأزياء العالمية هذه التي ركدت أسواقها بسبب الجائحة المستجدة، جائحة (كورونا)، شأنها شأن كل الأسواق التجارية، لا تعدم ابتكار الأفكار الجديدة حتى لا تنقص صناديق أموالها، أو تفلس مما فيها بعد أن تضطر الى تخفيض أسعار منتجاتها التي تكدست في مخازنها، وقلَّ الطلب مع الإقبال عليها بعد القيود التي حدَّت من الخروج من المنازل.. فإذا بها تحول مصانعها لإنتاج ما أصبح كل أحد بحاجة اليه ألا وهو الكمامات التي تغطي الأفواه من دون أن تكممها.. وتغطي الأنوف من ىدون أن تمنعها من أن تشم رائحة الملل، والنفور.. وبعد أن توقف مرتادو بيوت الأزياء الراقية عن ارتيادها، وتحولوا الى شراء ما يلزم من أدوات الترفيه، والتسلية، بدلاً من أن يشتروا جديد الثياب في مواسمها، وهم المعزولون في بيوتهم، أو في منتجعاتهم البعيدة عن احتمالات الإصابة بالوباء بعد أن فرّوا اليها.. بل إنهم قد يفكرون طويلاً قبل اقتناء أي من منتجات الكماليات غالية الثمن بعد الضائقة الاقتصادية التي طالت كل الثروات.
ومَنْ لا يملك المال الكافي لشراء الأزياء الراقية أصبح بإمكانه الآن على الأقل اقتناء ما تنتجه بيوتها من الكمامات الأنيقة التي تحمل توقيعها فوق النسيج المميز، وربما المطرز، والمزين بتصميمات الزهور الجميلة، أو بالرموز التي تأتي بحسن الطالع، وبالأحجار الكريمة أيضاً.. وخاصة أن هذه الدور العالمية رغم كل ما يواجهها من صعوبات لم تنس أن للموضة عادة أسابيعها التي تعرض فيها آخر صرعاتها، ومنتجاتها.. فإذا بها تقيم تلك الأسابيع من خلال المنصات الإلكترونية مع تسهيلات مغرية للشراء، وجذب الزبائن ولو ليسوا من الأثرياء.. إلا أنها هذه المرة ليست للأزياء بل لعروض الكمامات، وهي تعلن أنها ذات مواصفات عالية من الجودة، والإتقان لكل من يحرص على سلامته، ولا يهمل اهتمامه بمظهره.
ولكن.. هل يلزم المظهر الأنيق لمواجهة الوباء الذي لا يفرِّق بين العدو والصديق؟.. بل هل هذه الكمامات الأنيقة هي فعلاً أكثر فعالية من غيرها في أداء دورها في الحماية، والوقاية مادامت غالية الثمن، ومزدانة بما هو جذاب، ويلفت النظر، ويشجع على الارتداء بعد أن أصبحت (الكمامة) عالقة بوجوهنا، وجزءاً متمماً لأناقة أزيائنا، ولن يُستغنى عنها في الوقت الحاضر شأنها شأن المعطف الذي يقي من برد الشتاء، أو الحذاء الذي يحمي من صقيع أصابع القدم؟.. أم أن العقلية التي يحكمها المظهر من دون الجوهر مازالت كما هي لم تتبدل رغم ما طرأ على حياة البشر من تغيير (دراماتيكي) لو جاز التعبير؟.. بل لماذا لا نقول إنها أصبحت موضة مثل كل موضة للأزياء، ونحن لنا حرية في الاختيار، والانتقاء لما نحب، ويناسب؟
صحيح أنها كمامات جذابة في شكلها، وألوانها، وما تزدان به من رسوم لكنها في كل أحوالها ستغطي جزءاً من وجوهنا، وستحجب كالقناع ما يظهر تحتها من انفعالاتنا ونحن نرتديها.. فلا تدع غيرنا يرى فيما إذا كنا راضين عما نحن فيه، أو مرتابين مما يجري لنا، أو حانقين مقنَّعين رغماً عنا، أو مقتنعين غير رافضين، أو مذعنين مستسلمين.. بل إن غرامات ستُفرض علينا إذا ما تمردنا على ارتدائها في أماكن محددة كالمصالح الحكومية، والبنوك، والمواصلات العامة، وغيرها.. وقد أصبحت جزءاً من ملامح أجسادنا.. وهناك من يراقبنا، ويشدد العقوبة على مخالفتنا في حال عدم ارتدائها، فالكاميرات التي تختبئ عيونها في الزوايا الميتة لا تتوانى عن الرصد، والضبط.
والتاريخ الذي يحفظ لنا ذاكرتنا لابد أنه سيقيم فيما سيأتي من الأيام، أو الأعوام ركناً في متاحفه يعلق على جدرانه نماذج لهذه الكمامات بكل أشكالها، وربما عرضها الى جانب أقنعة الوجوه التي تستخدمها القبائل البدائية، في توثيق وتذكير بأحوال البشر، وما يمر بهم من فرح، أو كدر.
إضاءات ـ لينـــــا كيــــــــلاني