ثورة أون لاين:
المجتمع الأميركي اليوم يزداد هشاشة وتفسّخاً بعد أن عاش حياته على فوهة بركان جعلت الأرض الأميركية خصبة لاندلاع حرب أهلية في أي وقت.
“العنصرية” سياسة رسمية أساسها التفرقة في المعاملة بين “السود” و”البيض”، بدأت تلك السياسة القرن الماضي في المستعمرات الأميركية، حينما اعتمد المزارعون الأوروبيون على استرقاق أصحاب البشرة السمراء من الأفارقة للعمل بمزارعهم، لأنهم الأقدر على تحمّل مشقّات العمل وحرارة الجوّ المرتفعة، وراج استرقاق العبيد في النّصف الأول من القرن التاسع عشر، بسبب اكتشاف مناجم الذهب في أميركا، وإصدار قانون يُنظّم عملية الرق من قبل الحكومة الأميركية، ومارست ضدّهم جميع أنواع الاضطهاد والظلم.
تحوّلت ظاهرة العبودية في أميركا إلى حالة من البؤس يعيشها هؤلاء المواطنون، ويروي المؤرخون قصصاً يندى لها الجبين، حول الحرائق الجماعية للغزاة البيض وإقامة الكمائن حولها، فإذا خرج هؤلاء من أكواخهم هاربين من النيران يجدون رصاص البيض في انتظارهم ليحصد أرواحهم، فضلاً عن تقطيع الأطفال إلى أجزاء وإلقائها في النيران أمام أعين أمهاتهم، وغيرها من القصص المفجعة التي تلخّص أحوال ما وصلت إليه أوضاع هذه الشريحة المضطهدة.
جراح السود في أميركا بنيران الشرطة الأميركية تتجدد يوماً بعد يوم، تلك الشرطة انتهجت سياسة التفرقة في المعاملة بين المواطنين، وبالرغم من صدور قانون “تحرير العبيد” عام 1862 إلا أنه لم يستطع إنهاء معاناة هذه الفئة على أرض الواقع، وزادت حدّة الأزمة في عهد الرئيس باراك أوباما، صاحب الأصول الإفريقية.
“أوباما” الذي جعل الأميركيين من أصول إفريقية يعيشون أملاً كبيراً في إنهاء ذلك الانقسام العرقي والتاريخي الذى استمر عقوداً من الزمن، وظنّوا أنه جاء لاستكمال مسيرة “مارتن لوثر كينج”، أحد أهم الزعماء المدافعين عن الحرية وحقوق الإنسان ونبذ التفرقة بسبب اللون والجنس، وصاحب مقولة، “نحن لا نصنع التاريخ.. بل التاريخ هو الذي يصنعنا.. الفصل العنصري جريمة زنا محرّمة بين الظلم والخلود”، إلا أن أحلام الأميركيين سرعان ما تبخّرت في الهواء، فالسود ما زالوا يُقتّلون ويُعذّبون على أيدى الشرطة الأميركية، دون أي ذنب سوى أنهم أصحاب بشرة سوداء، في الوقت الذى يكتفي الرئيس الأميركي ببيانات التنديد مطالباً بالإصلاحات.
واللافت أنه بعد مرور قرن ونصف من الزمن مازال الأميركيون يعانون التفرقة العنصرية في بلادهم بسبب اللون والجنس، ورسّخت حقيقة أن العنصرية في أميركا آفة يصعب القضاء عليها، كما أن طريقة تعامل الشرطة الأميركية واحدة وإن تعدّدت وسائل القمع.
لم تكن آخر الاحتجاجات ضد العنصرية في الولايات المتحدة الأميركية تلك التي حصلت في العام 2010 بعد أن قُتل الشاب الأسود أوسكار غرانت على أيدي رجال الشرطة، حيث حُكم على الضابط الذي قتل أوسكار بالسجن لمدة عامين فقط، الحادث أثار غضب العديد من الذين تظاهروا سلمياً إلا أن عنف الشرطة مع المظاهرات أدّى إلى جريمة أخرى أشدّ بشاعة من سابقتها.
تاريخ الولايات المتحدة مليء بهذه الحوادث العنصرية وغضب السود ضد سيادة البيض بعد عشرات العقود من العزل العنصري، وأكثر من عشرة أعوام من النضال تحت قيادة مارتن لوثر كينغ، تم إلغاؤه فخرجت مسيرة كبيرة للمطالبة بالحقوق المدنية في العام 1963.
واليوم يتابع المشهد الأميركي عنصريته لتتزايد احتجاجات الغضب وتنتقل من ولاية إلى أخرى، إثر مقتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقية “جورج فلويد” خنقاً تحت أقدام ضابط شرطة عنصري في مدينة مينيابوليس، حيث أُعلن حظر التجوال في 10 ولايات من بينها فيلادلفيا واتلانتا وكنتاكي، واستدعي الحرس الوطني إلى العاصمة الأميركية واشنطن للانتشار في محيط البيت الابيض، حيث وقعت صدامات مع المحتجين خلف أسوار المكتب الرئاسي.
إنّ حالة العنصرية الأميركية عميقة بالفكر والعقيدة والسلوك الاجتماعي والثقافي ومازالت متأصّلة لدى العنصر الأبيض الذي يعتبر نفسه هناك بأنه السّيد المطلق، وهذه الحالة هي التي تجعله يعتقد أنّ له الحقّ كما كان لآبائهم بأن يمارسوا ضدّ العرق الأسود كل أنواع القتل العمدي لمجرّد أنهم يختلفون معهم في اللون والعرق واللّغة وغيرها، ذلك لأنه في الذهنية والخلفية في عقله يعتبر أن هذا العنصر الملوّن هو من أحفاد الذين استعبدهم آباؤهم.
هذه الثقافة العقائدية الاجتماعية السلوكية الحياتية اليومية لدى الأميركيين نتيجة تراكمات مطوّلة فوق بعضها، ولذلك فإن ما حدث مؤخراً خنق جورج لويد تحت قدم الشرطي، مع العلم أن جورج كان يسير معه طواعية، فجّر الغضب الهائل الكامن عند الأطراف الأخرى المقموعة.
أما بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب فمن الواضح أنّه يعاني اليوم من أزمة حقيقية دفعت بسلوكه السياسي نحو مزيد من التخبّط والتحرّك في سيناريوهات عشوائية، وبدأ المتابعون يشهدون جملة من الخطاب السياسي الطافح بالمشاهد الغريبة والمضحكة والتي دأب عليها أصلاً منذ تولّيه منصب الرئاسة.
من جهته أكد الرئيس الأميركى السابق باراك أوباما، أن التعامل المختلف بناء على العرق بالنسبة لملايين الأمريكيين يعتبر وضعاً طبيعياً مأسوياً ومؤلماً وجنونياً.
أميركا اليوم تتأرجح على حبال توتر إن زلّت قدمها عنها فإنها إلى الهاوية لا محالة فالسلطة الأميركية ومؤسسة الشرطة حافلتان بالعنصريين، بل إن هناك معلومات تقول إنّ معظم من ينضمّ إلى جهاز الشرطة لديهم ميول عنصرية ويبحثون عن مصدر سلطة لينفّذوا هذه الميول.
زينب العيسى