ثورة أون لاين_هفاف ميهوب:
“قضيت خمسة وثلاثين عاماً بين الأوراق المهملة.. أجمع الورق المهمل والكتب، وألطّخ نفسي بالحروفِ حتى صرت أشبه موسوعاتي”.
كلماتٌ قالها الأديب التشيكي “بوهوميل هرابال” بعد تجاربٍ طويلة وموجعة، جعلت مخيّلته تفيض بالأفكار والصوّر السّاخرة والمبدعة.. أيضاً، بعد أن عاش في “عزلة صاخبة جداً” أبدع في تجسيدها مؤكّداً: “لن نُظهر أفضل ما لدينا حتى نُسحق تماماً”.
إنّه ما عاشه بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد أن رأى بلاده تتخلّص من كتب ومخطوطات الاحتلال النّازي، الذي سحق كلّ القيم الفكريّة والإنسانيّة.. أيضاً، بعد أن عاش واقعاً لا إنسانيّاً ممزّقاً، رمز إليه في روايته قائلاً:
“عليَّ أن أعترف أنني كنتُ أحلم.. أحلم بأرضٍ ما.. بجمالٍ عظيم.. عشر مرّات في اليوم أتساءل أيّ إنسان غريب أنا؟!.. أيّ هدوء ينتابني وأنا أنعزل مع ذاتي وأهرب من نفسي؟!. “.
تتحدث هذه الرواية عن عاملٍ أبله، رغم أنّه أمضى خمسة وثلاثين عاماً في إتلافِ الكتب والورق، إلا أنّ هوسه بالمعرفة دفعه لإنقاذ المهمِّ منهما، ولأنه وجد بأن المعرفة التي تُسرق، هي هيكل الحياة والإنسان الذي تطحنه عجلات آلاتٍ، استطاع أن يسمع تهشيمها له عندما كان يَسحق:
“أستطيع أن أسمع تهشم الهياكل العظميّة، بينما أسحق جماجم وعظام الأعمال والكتب الكلاسيكيّة”.
هذا ما وجده ووصفه، بأنّه جريمة لا تغتفر، وفيها إبادة للمعرفة والبشر.. جريمة سعى ما أمكنه لتفادي وقوعها أو المشاركة بها، وعبر قيامه بإنقاذ ما أمكن من الكتب التي كان يُحضرها:
“أُحضر الكتب كلّ مساء في حقيبتي إلى المنزل، امتلأت شقّتي ذات الطابقين بالكتب، وهو حال القبو والسقيفة والمخزن، وحتى الحمام”.
هذا ما يفعله بطل الرواية، وربما الكاتب الذي أرعبهُ ما آلت إليه الحياة من انحطاط وبؤس وغربة ووحدة، وفي زمنٍ يعيش حتى المثقّفون فيه “على الهامش.. يشتغلون في الأقبية ولديهم أفكار حيّة وملهمة في رؤوسهم”.
باختصار.. الرواية صرخة إنسانيّة – أدبيّة.. صرخةٌ وإن جسّدت واقع حياةٍ بائسة سببها الحروب التي تنتهك الإنسان وقيمه وحياته، إلا أنها جسّدت أكثر، ما ينجم عن تطوّر الآلة التي سحقته وأحالته، إلى كائن لا جدوى منه ويرتعبُ بمجرّد رؤية الآلة التي بدأت تتغلغل حتى في جزئياته.
نعم هي صرخة، نسمعها فنضطرُّ للسؤال في هذا الزمن الذي تفاقمت فيه عزلتنا وتضاءلت معرفتنا، وسيطرت فيه الآلة على عقولنا مثلما إنسانيتنا.. نضطرُّ للسؤال: متى نظهر أفضل ما لدينا، بعد أن سُحقنا تماماً؟!..