ثورة أون لاين – ديب علي حسن:
كل الدروب وعرة في بداياتها، وكل البساتين تحتاج الى عناية بدءاً من حفرالأرض وإعدادها، وتشذيب مايزرع فيها، كل شيء يروض، يدجن، يتطور، ينمو، يتحول، يتغير، نعم هذه سنة الحياة وديدنها إلا بعض الأعراب الذين استعصوا حتى على خالقهم في التغير والتبدل، ظلوا عند جاهليتهم في الكره والحقد والنذالة، والخزي والعار، ليتهم بقوا عندها فقط بل زادوا عليها ما أخذوه من دون الآخر..
ولا أقصد الجاهلية بمعنى الكبرياء والعنفوان أبداً، بل جاهلية السفاهة التي يخجل المرء من ذكر موبقاتها … حين أقرأ كتاب : المرأة في الجاهلية والإسلام لمؤلفه عبد السلام الترمانيني، وقد صدر منذ عقود .. أشعر بالخجل مما جاء فيه عن الزواج عند العرب، وأسأل نفسي : حقاً كانت هذه الرزايا الأخلاقية موجودة ؟ أحقاً كانوا يفعلون هذا …؟! لم أصدق وأظن أن الكثيرين من النقاد كتبوا عن الضخ المبالغ به في مثالب الجاهلية وأن الذين زادوا ذلك في عصر التدوين إنما أرادوا من هذا أن يظهروا ماجاء به الإسلام وبمعنى آخر ليقارنوا بين ماكان وماصار … ولكني اليوم أمام مانراه ويراه العالم بالصوت والصورة، بالحقيقةالتي لاتقبل الشك ولا الدحض، أقف مذهولاً أمام هذا العري وأظن أن الذين كانوا يدونون (مثالب) العرب أخفوا الكثير منها لئلا تبقى وصمة عار بحق أجدادهم.. الآن لم أعد أصدق قول المتنبي (في البداوة حسن غير مجلوب) ليس كل البداوة أبداً، فالبداوة في سورية نبل وعطاء وحضارة وتفاؤل وإغاثة ملهوف بداوة أولئك الأعراب الذين يجب أن يكون قول المتنبي فيهم: وفي «بعض البداوة شراً غير مسبوق»…
هم على جاهليتهم لم يتغيروا، لم يتبدلوا، لم يتطوروا كأنهم لم يروا الحضارة أبداً… ماذا لو أنهم أتوا إلى مدينتنا، حضارتنا وعاشوا قربها، ماذا لو أتى غير باحثين… ألم يتغير الأمر ألم يكن سلوكهم قد تبدل… هل تذكرون علي بن الجهم.. هذا الشاعر الذي قدم الى الخليفة ذات يوم وقال فيه:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب /أنت كالدلو لاعدمناك دلوا من كبار الدلا كثير الذنوب/ فأجمع الحاضرون على عقابه وسجنه ولكن الخليفة رفض لأنه يعرف بيئة الشاعر، وأمر أن يسكن بستاناً فيه من الجمال والجواري والحسان وبعد زمن استدعاه وقال له اسمعنا من شعرك فقال:
عيون المهابين الرصافة والجسر – جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الشوق القديم ولم أكن- سلوت ولكن زدنا جمراً على جمر …
هل تعرفون أن المكان كان الرقة أو الرافقة .. هناك عاد علي بن الجهم ورداً نضراً، هناك عاش حضارة وبهاء، ولا انتقص أبداً من التيس والكلب، ففيهما من الوفاء الآن أكثر ممن يربونها هؤلاء الذين أتونا أشراراً غزاة، ودمروا الرقة والرافقة بالقرب من منازلهم ستجد أفخم السيارات وآخر أدوات التقنية الحديثة، لكن ادخل إلى عقولهم ومنازلهم، وأفكارهم هل ستجد غير العفن وصورة العقرب متأهباً، لن تجد قطرة ندى واحدة، لن تشم عبق الشوق ولا الوعر ولا بيلسان الصحراء ولا … بعضهم يباهي أنه ينزل في أفخم فنادق أوروبا ويبذخ بالمال والهدايا ولكنه لاينسى أمام أول رصيف يجلس عليه أن يتناول حفنة من بذور ويلقي قشورها علي قارعة الطريق وسط ذهول من يراها …
هؤلاء الذين عجزت كل الشرائح السماوية عن تغييرهم ودفعهم نحو الرصيف الأول من الانسانية تفاجأ أنهم مع أول ممتط لظهورهم من الغرب يصبحون، كالبعير، الذلول، تروضوا، هادنوا ولكن ليس نحو، أخوتهم، بل للتربص بهم، ومحاولة اجتثاث حضارتهم، لايتذكر هؤلاء السادرون في غيهم وحقدهم وجاهليتهم أن أخوة لهم كانوا يرسلون إليهم لقمة عيشهم وأنهم – الأجلاف أصحاب الأظلاف – كانوا ينتظرون على قارعة الطريق وقد شوتهم حرارة السماء ليروا قادماً من بلاد الشام يتصدق عليهم بشيء ما.. الآن صاروا أصحاب أموال وثروات لكنها تبت كماتبت يدا أبي لهب وماله .. مال يحرق الابن والأخ ويغتال الكرامة والمروءة والشهامة، مال صاروا عبيداً له مرتين، مرة له، ومرة ثانية للغرب الذي يسرقه منهم وهم مسرورون بذلك ..
وبعد هذا كله هل سنصفق لهم ذات يوم هنا .. هل سنحرم أبناءنا من مقاعد الدراسة ليدرسوا هم، هل سنعطش ليشربوا، ونعرى ليلبسوا وهل وهل .. هم الأجلاف والصلال التي لم تتحول أبداً وأينما كانوا وحلوا سيبقون على قسوتهم، عفونتهم، وهي معركة الحضارة بين الحرف والظلف، بين عاج الشقي على رسم يسائله وبين الرصافة .. ولن نجانب الحقيقة حين نذكرهم بالقول المأثور: وضعوا ذيل الكلب أربعين عاماً في القالب وعاد الى اعوجاج.. كل مياه العالم، وكل معقماته وكل حضارته لن تغسل عارهم، ولن تجعلهم يتحضرون فالقطيعة القطيعة ..
d.hasan09@gmail.com