الملحق الثقافي:هنادة الحصري:
يقول أحد الكتاب متحدثاً عن الذاكرة التي لا تمحى بجرة قلم: من نافلة القول إن الشعوب التي تفقد ذاكرتها وتاريخها إنما تفقد وجودها، ويومها وغدها، فكيف إذا أريد لها أن تفقد تاريخها وحرفها وأبجديتها، ويخطط لها أن تبقى كتلاً هلامية قابلة للتشكيل كما يحلو للغزاة الذين يبتكرون كل يوم أسلوباً جديداً للوصول إلى أهدافهم.
من هنا تأتي أهمية الحديث عن الذاكرة الجمعية التي هي السجل الأساس لكل الأمم. ومن المعروف أن الحرف الأول كان من أوغاريت، ومن هنا كانت النوتة الأولى، والمدينة الأولى، وما دونه التاريخ ووصلنا يدلل على أن حضارة عمرها آلاف السنين، لا يمكن أن تكون في مهب الريح أبداً، ولا تذروها الرياح، لذلك أعدوا ما استطاعوا من خطط للقضاء عليها، والعمل على بترها والفصل بين الماضي والحاضر، ويبدو ذلك جلياً واضحاً من خلال ما نراه على أرض الواقع من نهب وتدمير للتراث الإنساني الموجود في سورية والعراق. فالمحطة الأولى تتمثل باغتيال الذاكرة الأولى، والهوية الأولى، ومن ثم العمل على اغتيال كل معالم الحضارة والثقافة في هذا الوطن. ولا يبتعد عن ذلك ما نراه من انغماس الكثيرين في مستنقع ما سمي العالم الافتراضي، واتخاذه مدونة يسجل عليها كل شيء، وإهمال الحرف المطبوع، سواء كان كتاباً أو صحيفة، أو وثيقة، وليس بعيداً عن مخاطر هذه الحال ما يسربه ويكيليكس، وما تقدمه المواقع الإلكترونية وتدسه في العسل الشهي للأجيال الناشئة، وهذا أسلوب جديد من أساليب الاغتيال الحضاري، وتدمير الذاكرة الجمعية التي تكشف عري الآخر لاسيما الولايات المتحدة الخارجة إلى العالم عارية من كل القيم والمبادئ والحضارة، وبالتالي لابد من محو وطمس أي حضارة أخرى، مهما كان الثمن وإعادة تشكيل العالم وصياغته كما يحلو لها، تساندها في ذلك الكيانات اللقيطة التي نبتت كما الفطر في ليلة ضبابية، وعلى رأسها «إسرائيل» وممالك الخليج التي تندفع في لعبة محو الذاكرة، وهي لا تعرف أن ثمة ريحاً سموماً تهب عليها وتقتلعها لأنها ليست ذات جذور حقيقية.
نعم، ربما نعيش نحن العرب في غياب حضاري تام ورغبة مأساوية في الهرب باتجاه الماضي تفتيشاً عن العقلانية والتقدم والهوية، ليس بهدف التحرك صوب الأمام والاستفادة من خبرات ماضية، لكن محاولة للتأقلم مع العصر بإيحاء كاذب ومشاعر عدوانية.
وتتالت أحداث القهر العربي لتبرز «إسرائيل» كإشكالية كبيرة في صميم الجسد العربي، فهي لا تتوقف عن ممارساتها العنفية تجاه فلسطين وأبنائها وأراضيها، فمن حرق للأراضي بهدف إقامة المستوطنات إلى تجويع يستوجب تسول الفلسطيني للهيئات الأممية لدرء غائلة العوز.
كل هذا لهدف أساسي وهو القضاء على كل أثر تاريخي فلسطيني وتحويله إلى لا شيء، لتطويع تاريخها وفق قراءتها التوراتية والاستعمارية. هذا عن «إسرائيل» ومنظومتها التي تهدف إلى محو كل تراث حضاري فلسطيني، ولكنها ليست وحدها.. لقد برز تنظيم «داعش» الذي نتابع إجهازه بالمطارق والبلطات والمناشير الكهربائية بيد رجاله وكأنهم بهذا الفتك المقصود والمصور يهدفون لتصيد المزيد من الشهرة البربرية والتي باتت مدعاة للاستثمار الإعلامي.
أما أن يمتد العنف والفتك ليطال تاريخنا، فهذا لعمري شيء يدمي أن نرى التاريخ يندثر وكأن بينهم وبين الأمم المندثرة ثأر قديم.. هل هو الخوف من الموتى وإنجازاتهم؟ صحيح أن الآثار ليست أغلى من النفس البشرية التي خلقها الله وكرمها، ولكن أليس من المؤلم هدم تماثيل عمرها آلاف السنين بوحشية قاتلة وكأننا نعيش حقبة ما قبل الحضارة؟!
أسواق حلب القديمة، متحف الموصل الذي سرق منه أكثر مما هدم، وكان الهدف هو بيع ما بقي فيه بالملايين وكله يهرب إلى أمريكا، نينوى وثيرانها المجنحة، ثمانية آلاف كتاب ومخطوط ووثائق نادرة أحرقت في مكتبة الموصل، مقبرة النبي يونس، كل هذا يعني كارثة ثقافية وخسارة علمية تتعرض لها المنطقة العربية، هذه الآثار التي يتمنى الغرب لو كانت عندهم لجعلوا منها مزارات للسياح تدر أموالاً طائلة.. والعرب تدمر حضارتهم بدل أن تستغل لتنشيط سياحتهم ورفع المستوى الاقتصادي لأبنائهم!
إن نظرة متعمقة في حدائق فرساي التي تذهل الأبصار بهندستها والكوليزيوم بضخامته وروعة بنائه، توضح لنا كيف أن الغرب استوحى كل هذه الكنوز من أجدادنا.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل هو حقد من الغرب على أناس شيدوا حضارة، وهل في هدمها شفاء لغليلهم، أم أنهم بهذا يهدفون لإلغاء تجاربهم الإنسانية، وبهذا لن يستفيدوا منها؟!
أين علماء الآثار العرب؟ ألا يستطيعون أن يحركوا الرأي العام ضد هذه الوحشية القاتلة الهادفة إلى إبادة التاريخ العربي؟
التاريخ: الثلاثاء16-6-2020
رقم العدد :1002