نعوم تشومسكي: مهمتنا قتل الأشجار والهنود الحمر

 الملحق الثقافي:

كان وصول كولمبوس إلى العالم الجديد، كارثة على العالم بكل المقاييس، ومنذ ذلك اليوم والبشرية تدفع ثمن هذا الاكتشاف الذي كما يقولون كان عن طريق الخطأ وبحثاً عن الذهب، اكتشاف أقام الولايات المتحدة الأميركية على أنقاض العالم الذي كان، تاريخ دموي لم ولن يتوقف. عندما حانت الذكرى الخمسمئة وواحد لهذا الاكتشاف، أصدر المفكر الأميركي نعوم تشومسكي كتابه المهم جداً: سنة 501 الغزو مستمر، وهو سجل حافل لكل ما كان من فظائع مارسه العرق الأبيض المدجن بأوهام أنه قادم من السماء و/ أو مكلف منها برسالة هي القطيعة مع الماضي.
ما قامت بها أميركا وعليه، هو الدم والقتل والغزو المنظم، يرى تشومسكي:
إن الميل نحو العصر الإمبريالي الجديد الذي أعلنته صحافة المال الدولية واضح ومفهوم، إلى جانب اتساع الانقسام بين الشمال والجنوب وتقدمه صوب المناطق الغنية. ثمة ميول معاكسة أيضاً، فقد تغير الكثير خلال السنوات الثلاثين الماضيات، لو أن الذكرى 500 للنظام العالمي القديم قد حلت عام 1962 لكان احتفل بها ثانية بوصفها تحريراً للنصف الغربي. أما في عام 1992 فكان ذلك مستحيلاً، لأن قلة من الناس فقط ما زالوا يستطيعون الحديث عن مهمتنا في “قتل الأشجار والهنود”.
صحيح أن الغزو الأوروبي قد صار الآن رسمياً يسمى “مواجهة”، إلا أن قطاعات كبيرة من السكان ترفض هذه الكلمة المتأنقة لأنها تعدو كونها تخفيفاً لعدوانية سابقتها. تعتبر أشكال الرفض المحلي لعنف الدولة، والتي صارت القيادة السياسية في الولايات المتحدة مدركة لها، نقطة أخرى في هذا السياق. شعر كثيرون بالإحباط لأن حركة السلام لم تستطع منع حرب الخليج. لكنهم لا يتذكرون أن الاحتجاجات الواسعة قد سبقت، وربما للمرة الأولى، بدء القصف. إنه تغير جذري عن حالة قصف جنوب فيتنام قبل ثلاثين عاماً خلت. ذلك القصف الذي تم دون أية ذريعة، مهما تكن واهية.
لقد بلغ اختمار الستينات دوائر أوسع كثيراً في السنوات اللاحقة، مثيراً حساسية جديدة ضد الاضطهاد العنصري والجنسي، واهتماماً بالبيئة، واحتراماً للثقافات الأخرى ولحقوق الإنسان.
من أبرز الأمثلة على ذلك حركات التضامن مع العالم الثالث في الثمانينيات باهتمامها، الذي لا سابق له، بحياة ومصير الضحايا. إن بوسع عملية تنامي الحس الديمقراطي والاهتمام بالعدالة الاجتماعية أن تحمل دلالات كبيرة. يعتبر أصحاب السلطة هذه التطورات خطرة وهدامة، ويدينونها بشدة، وهو أمر مفهوم. إنها تهدد مبدأ السادة الوضيع وكل ما ينتج عنه بالخطر المستطير. وهي أيضاً تقدم أملاً حقيقياً وحيداً للكتلة الكبرى من البشر في هذا العالم، بل وحتى لبقاء النوع البشري في عصر المشاكل البيئية وغيرها من المشاكل التي لا يمكن مواجهتها بين اجتماعية وثقافية بدائية مرفوعة بالمكاسب المادية قصيرة الأمد التي تنظر إلى الكائن البشري كوسيلة لا كفاية.
ضمن هذه المقاربة يسوق نعوم تشومسكي معلومات مكثّفة عن دور الولايات المتحدة الاستعماري الاستبدادي عبر التاريخ، واضعاً تلك المعلومات ضمن منظور تاريخي مديد هو حصيلة السنوات الخمسمئة التي أعقبت رحلات كولومبس، امتداداً إلى الآن، والنتيجة عدم تغير دور الولايات في الإخضاع والفتح على مر السنين إلا قليلاً: في هاييتي أمريكا اللاتينية، كوبا، أندونيسيا، وحتى جيوب العالم الثالث التي تنمو داخل الولايات المتحدة.
وفي الحقيقة إن ما يقيمه نعوم تشومسكي هو موازاة بين الإبادة الجماعية زمن الاستعمار وبين القتل والاستغلال المرتبطان بإمبريالية اليوم. تغير العنوان وبقي المضمون. تغير اسم الاستعمار الأميركي، وبقي فعله تحت مسميات معاصرة شاملاً كل أنحاء العالم.

متاحف لعظام الهنود الحمر
كان لافتاً أنه في عام 2001، الحديث مع القرن الجديد عن فضائح ما جرى في أمريكا، إذ تناولت الصحف ووكالات الأنباء الكثير من محاولات بقايا الهنود الحمر استعادة عظام ورفات أجدادهم الذين تحولوا إلى بقايا في المتاحف.
يتذكر هومر سانت فرانسيس، زعيم قبيلة أبيناكي الهندية، كيف فوجئ عند دخوله مبنى في جامعة فيرمونت عام 1973 برؤية عظام بشرية تستخدم كعتبات للمداخل وكأدوات لجمع الأتربة تبين أنها من رفات موتى قبيلة أبيناكي. وحول سانت فرانسيس ما انتابه من غضب إلى حافز له على شن حملة استغرقت أعواماً لاستعادة هذه الرفات. وأثناء تنظيمه حملته، اكتشف أن العظام التي تندرج تحت ملكية جامعة فيرمونت، ما هي إلا رأس جبل جليدي. فثمة كميات هائلة من عظام ورفات موتى الهنود الحمر جمعت على مر قرون وانتهى بها الأمر إما في متاحف أو في مؤسسات تعليمية أو مبان حكومية في كافة أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية. وينظر إلى هذه البقايا كمجرد آثار أو أشياء ترضي فضول المتفرجين.
وفي حين تطالب الدول والجماعات العرقية في العالم بأسره باستعادة ما يخصها من قطع فنية وآثار سرقت إبان حروب، فإن قبائل سكان أمريكا الأصليين لا يسعون لاسترداد لوحات فنية بل بقايا موتاهم. فإلى عهد قريب، كانت هياكل عظمية وقطع من أجسام هنود حمر تعرض بشكل طبيعي للغاية في المتاحف الأمريكية. ففي متحف فورت تيكونديروجا في نيويورك كان من الممكن للزوار مشاهدة الجماجم الخاصة بهنود حمر. وانطبق الأمر نفسه بصورة أو أخرى في متحف الهنود الأمريكيين في مانهاتن ومتحف الآثار وعلوم الاعراق التابع لجامعة هارفارد العريقة.
إلا أن الحكومة الأمريكية وافقت عام 1990 على قانون (حماية وإعادة توطين مقابر سكان أمريكا الأصليين) الذي اعتبر الخطوة الأولى في إعادة رفات الموتى إلى ذويهم. ويلزم القانون كل متحف إلى السعي لإعادة ما لديه من رفات إلى الأقارب الأحياء، كما يحظر الإتجار في رفات الهنود الحمر. وتشير الوثائق الحكومية إلى أن 175 متحفاً أمريكياً تقريباً تمتلك فيما بينها ما يقدر بـ200 ألف مجموعة من رفات هنود حمر. وتوقع مكتب موازنة الكونغرس أن تتكلف جهود إعادة الرفات إلى الأقارب الأحياء في السنوات الخمس الأولى فقط ما بين 20 و55 مليون دولار. وانقضت سنوات على بدء هذه الجهود، ولا يزال أمام السلطات المختصة شوط كبير لم يقطع بعد. فالأمر يتطلب تقييم ما يوجد بحوزة هذه المتاحف وتغليفها وشحنها إلى ما يستدل عليه من عناوين. وتتنوع الأشياء المعنية من جماجم إلى أدوات مثل مسامير صدئة وقطع خشبية وغير ذلك من أدوات استخدمت في مزاولة الطقوس الهندية القديمة وأزرار معدنية وأجسام معدنية أخرى متآكلة.
وقال غريغ لياكوس أمين متحف في ولاية ماساتشوستس إن المتحف الآن بصدد إعادة هياكل عظمية وأكفان للدفن إلى مجموعة من الهنود الحمر في الغرب الأمريكي الأوسط وصحن به أسنان بشرية إلى قبيلة في هاواي. ومن بين الرفات التي توجد في المتاحف قدر يخص شخصيات تاريخية معروفة لقيت حتفها في ظروف مأساوية. ففي متحف التاريخ والعلوم الطبيعية في دافنبورت بولاية أيوا ترقد جمجمة (الوعل الأبيض) زعيم قبيلة شيين الهندية الذي توفي عن عمر يناهز الخامسة والسبعين رمياً بالرصاص في مذبحة شنتها القوات الأمريكية عام 1865 رغم كونه غير مسلح آنذاك. وقد أعيدت الجمجمة بالفعل إلى جالية قبيلة شيين بولاية أوكلاهوما.
غير أن أكبر مجموعة من العظام الخاصة بهنود حمر ترقد في حوزة متحف التاريخ الطبيعي في واشنطن. والسبب في ذلك هو نداء وجهه كبير جراحي الولايات المتحدة عام 1867 إلى الأطباء بجمع كل ما يمكنهم من جماجم وأسلحة وثياب وأدوات وأطعمة وأدوية خاصة بالسكان الأصليين للولايات المتحدة لملء المساحات الشاغرة في متحف كان حديث التأسيس آنذاك هو المتحف الطبي للجيش الأمريكي. ويقول خبير الاثار الأمريكي سام بول إنه ترتب على ذلك أن قام الناس بـ (نبش القبور لسرقة الجماجم وبيعها إلى الجيش)، وهو سلوك استمر العمل به حتى الثلاثينيات من القرن العشرين إلى أن تدخلت إدارة الجيش لإنهائه. ووصل عدد الجماجم التي انتهى بها المطاف في المتحف إلى 2،206 جمجمة انتقلت فيما بعد إلى متحف التاريخ الطبيعي في واشنطن.
وبطبيعة الحال، فقد أدت ضخامة العدد إلى صعوبات كثيرة صادفتها الحكومة عندما قررت إعادة الجماجم إلى ذويها. إلا أن هذا (الكابوس البيروقراطي) الذي تواجهه الحكومة في مهمتها لا يعني أحفاد موتى السكان الأصليين لأمريكا في شيء، فهم شديدو الارتباط بأسلافهم. وتقول دونا روبرتس مودي التي ترجع أصولها إلى قبيلة أبيناكي والمسؤولة عن إعادة توطين رفات السكان الأصليين في فيرمونت (عندما يتوفى واحد منا فإننا نؤمن أن روحه تظل مرتبطة بعظامه). وبعد معركة مع السلطات الحكومية استمرت 22 عاماً، نجح هومر سانت فرانسيس عام 1994 في استعادة رفات جده.

التاريخ: الثلاثاء16-6-2020

رقم العدد :1002

 

 

آخر الأخبار
40 بالمئة نسبة تخزين سدود اللاذقية.. تراجع كبير في المخصص للري.. وبرك مائية إسعافية عيد الأضحى في سوريا.. لم شمل الروح بعد سنوات الحرمان الدفاع المدني السوري.. استجابة شاملة لسلامة الأهالي خلال العيد دمشق منفتحة على التعاون مع "الطاقة الذرية" والوكالة مستعدة لتعاون نووي سلمي حركة تسوق نشطة في أسواق السويداء وانخفاض بأسعار السلع معوقات تواجه الواقع التربوي والتعليمي في السلمية وريفها افتتاح مخبز الكرامة 2 باللاذقية بطاقة إنتاجية تصل لعشرة أطنان يومياً قوانين التغيير.. هل تعزز جودة الحياة بالرضا والاستقرار..؟ المنتجات منتهية الصلاحية تحت المجهر... والمطالبة برقابة صارمة على الواردات الصين تدخل الاستثمار الصناعي في سوريا عبر عدرا وحسياء منغصات تعكر فرحة الأطفال والأهل بالعيد تسويق 564 طن قمح في درعا أردوغان: ستنعم سوريا بالسلام الدائم بدعم من الدول الشقيقة تعزيز معرفة ومهارات ٤٠٠ جامعي بالأمن السيبراني ضيافة العيد خجولة.. تجاوزات تشهدها الأسواق.. وحلويات البسطات أكثر رأفة عيد الأضحى في فرنسا.. عيد النصر السوري قراءة حقوقية في التدخل الإسرائيلي في سوريا ما بعد الأسد ومسؤولية الحكومة الانتقالية "الثورة" تشارك "حماية المستهلك" في جولة على أسواق دمشق مخالفات سعرية وحركة بيع خفيفة  تسوق محدود عشية العيد بحلب.. إقبال على الضيافة وتراجع في الألبسة منع الدراجات النارية بحلب.. يثير جدلاً بين مؤيد ومعارض!