عالم مفرط من اللامعقولية

 

الملحق الثقافي:حاتم حميد محسن:

هل ستتمكن سياسات ما بعد الحقيقة Post-Truth Politics من إنهاء مشروع التنوير؟ الصحفيون والسياسيون استخدموا تعبير “عالم ما بعد الحقيقة” و”سياسة ما بعد الحقيقة”. بعض ما بعد الحداثويين رحّبوا بهذا العصر الجديد. هم يدّعون بحماس أن هذا العصر سيكتب نهاية مشروع التنوير. هذا الادّعاء يبدو صحيحاً. ذلك لأن التنوير تبنّى مشروع السعي للحقيقة أمام الدوغما الدينية والتعصب السياسي. التنوير أيّد وناصر العلوم التجريبية وطرقها المضادة للأحكام الدينية. إنه طالب باستخدام العقل والتبرير العقلاني في المؤسسات الاجتماعية المعادية للسعادة الإنسانية. التنوير كافح من أجل حرية الكلام وحرية الصحافة في وجه الرقابة الدينية والسياسية.
إن التعبيرات المضللة والسيئة لـ “عالم ما بعد الحقيقة” و”سياسة ما بعد الحقيقة” برزت من نقاشات عام 2016 حول استفتاء بريطانيا على عضوية الاتحاد الأوروبي وانتخابات الرئاسة الأمريكية. في كلا الموضوعين جرى تطوير الكذب من جانب السياسيين والصحفيين. الكذب، أيضاً يُعرف بـ “حقائق بديلة”، وأصبح له رواج سياسي شرعي. العديد من السياسيين الذي يلتمسون أصوات الناخبين لم يكونوا مهتمين بالجدال المنبثق من الحقائق المؤسسة جيداً والمدعومة بالدليل للوصول إلى استنتاجات صحيحة. كل ما يهم هو الحصول على أصوات الناخبين لتمكينهم من الوصول إلى الحكومة أو لتحقيق أهدافهم الخاصة، لا يهم كم هو حجم الكذب أو مقدار التشويه في الحقائق.
سياسات ما بعد الحقيقة هي متابعة الأهداف السياسية بصرف النظر عن الحقائق أو الدليل المتوفر. أحكام الخبراء، المحامون الدوليون والمؤسسيون، علماء المناخ والمحافظون والاقتصاديون وعلماء السياسة، جرى تنحيتهم جانباً على أساس أن الخبراء أحياناً يرتكبون الأخطاء. ولكن لم يتم توضيح ادّعاءات ما بعد الحقيقة التي يعرضها صحفيون وسياسيون جاهلون وليسوا ذوي اطلاع في أنهم أنجزوا مناعة ضد الخطأ. لم يكن لديهم الدليل المناسب. ما عرضوه كان فقط الادّعاءات الحادة والسخيفة للسياسيين الشعبويين والكارزميين الذين يعتبرون الولاء للصحف الكبرى يفوق كثيراً أي اهتمام بالحقائق أو العقل. لابد من دفع الثمن الحتمي لتجاهل الحقائق وإهمال الحكم العلمي والتعليمي ونبذ التنبؤات العقلانية المتأسسة جيداً. لكن التكاليف بدأت على الأرض. هذه التكاليف تتمثل بالضرر الذي وقع على روح الديمقراطية النيابية وضبابية التمييز بين الحكم الديمقراطي والحكم الديموتي (الشعبوي) demotic rule.
كيف نعرّف الحقيقة؟
ما يقوله الكائن البشري هو إما صحيح أو كاذب. وعليه، فإن الأفكار، العقائد، الشكوك، الحدس والتخمين للكائن البشري الذي يعبّر عن ذلك، هي أيضاً تكون إما صادقة أو كاذبة. الشيء الذي يُعبّر عنه بـ “ادّعى، أعلن، صرح، كشف” هو صحيح إذا كان الشيء هو بالفعل كما قيل عنه. لا توجد أشياء مثل الحقيقة التجريبية النسبية، لا شيء من قبيل “صحيح بالنسبة إلي” أو “صحيح بالنسبة إليك”. فقط الرأي هو الحقيقة، وإن الأفضليات التي ربما تُبرر أو لا تُبرر عقلانياً، يمكن أن تكون ذاتية بهذه الطريقة. الشيء يكون صحيحاً إذا كان قد تأسس بواسطة الملاحظة والتجربة. إنه أحياناً يأتي من شخص ما يحاجج بأمان ولا حاجة ضرورية للجدال معه.
إن إنكار الحقيقة لا يضع حقيقة بديلة وإنما الكذب. هل كونك معقولاً هو نفس كونك عقلانياً؟ السمة المعرّفة للبشرية التي تميزنا عن الحيوانات الأخرى هي قدرتنا على التفكير. تلك القدرة نتيجة لكوننا مخلوقات نستعمل اللغة. القدرة على التفكير تتضح في التفكير. التفكير يرسم استنتاجات من المقدمات أو الافتراضات التي تبرر الاستنتاجات. عقل المرء يكون جيداً عندما توفر افتراضاته أسباباً جيدة للإيمان بأن الاستنتاج صحيح. الكائن العقلاني قادر على تمييز شيء ما كسبب، وهو قادر على وزن الأسباب، التشاور مع العقل، والوصول إلى استنتاج على أساس من الأسباب.
العقل يقوم بمهمتين اثنتين هما الإرشاد والتنظيم. عبر استخدام العقل نحن لدينا مرشد لأفكارنا وأحكامنا المتعلقة بالأشياء وبقراراتنا المتعلقة بما نريد وما نعمل، وبمشاعرنا لأننا لدينا عقول للتفكير وللفعل. باستخدام العقل نحن نتحكم بميولنا القوية للتفكير والفعل والشعور لأسباب سيئة أو بدون أسباب. القرار باختيار ممارسة قدرتنا العقلانية هو متروك لنا. المخلوقات التي تستطيع التفكير هي وحدها تستطيع الإجابة على سؤال “لماذا”؟، هم يستطيعون تبرير ما يعتقدون به، ما يشعرون به، ما ينوون القيام به، ويستطيعون تبرير وتوضيح ما اعتقدوا أو شعروا به أو فعلوه. قدرتنا على التفكير لها وجهان: كوننا عقلانيين rational وكوننا معقولين reasonable.
كل شيء معقول هو عقلاني، ولكن ليس كل ما هو عقلاني معقولاً. الرجل الاقتصادي العقلاني هو نموذج للامعقولية. المرء يكون عقلانياً إذا كان تفكيره صالحاً ولا يتأرجح بالاعتبارات غير الملائمة. ولكن أحداً ربما يكون عقلانياً في متابعة أهداف سخيفة أو شريرة، أو يسعى إلى هدف فردي (مثل مضاعفة الربح) في عدم اعتبار جميع الآخرين ومتناسياً الخير للناس الآخرين. كونك عقلانياً، بهذا المعنى، مرتبط بالأداتية Instrumentality. المعقولية، التي هي الوجه الآخر لقدرتنا في التفكير، ترتبط بتقدير القيم وتعدديتها من حيث الوعي بالاهتمامات الشرعية للآخرين، وبالمقدرة على التوازن بين الادّعاءات المتصارعة للناس والمواقف. اللاعقلانية تتعارض مع كل من المعقولية والعقلانية.
ما هو مشروع التنوير؟
التنوير كان حركة فكرية أوروبية – أمريكية برزت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر في مراكز متعددة وفي أوقات مختلفة. أعضاء حركة التنوير كانوا جماعة صغيرة من المثقفين تضم الفلاسفة والعلماء الذين كانوا يكافحون تمايزات عصرهم وكذلك شخصيات نقدية بارزة. التنوير كحركة عالمية اكتمل في مؤتمر فيينا عام 1815، مع إعادة إدخال النظام القديم في كل أوروبا، وإعادة تفعيل الكنيسة، وكبح حرية الكلام والدين، وإحياء قوانين العقوبات الوحشية. مشروع التنوير مستمر حتى اليوم، وحالياً هو تحت تهديد خطير من أصوات الوطنية اللاعقلانية، الخوف من الأجانب، التعصب الديني، متطلبات الاقتصاد الرأسمالي لتعظيم أرباح الشركات ونمو الاقتصاد القومي في تجاهل الأهداف الأخلاقية والاجتماعية الأخرى، وهو يواجه أيضاً تهديد سياسات ما بعد الحقيقة.
التنوير لم يكن عالميا فقط بالعضوية ومراكز النشاط، وإنما هو عالمي في الروح أيضاً لأنه ادّعى ودافع عن التبادل الدولي الحر للأفكار والمعرفة العلمية (حتى في وقت الحرب) وطوّر برامج للسلام العالمي (كانط). رجال التنوير وافقوا على فكرة الأمم المتحدة (ولكن ليس على تطبيقاتها). رجال التنوير الأوائل (مثل فولتير) لم يدعموا الديمقراطية وشعروا بالارتياح مع النظم الأوتوقراطية شرط أن تكون تنويرية ذات سلطات دستورية محددة. الأعضاء اللاّحقون مثل (بنثام Benthan، باين Paine، غودون Godwin) دعوا إلى الديمقراطية النيابية. في الواقع، جميعهم امتلك الإيمان بالتقدم الأخلاقي والسياسي والقانوني الذي ينتج ليس من الثورات وإنما من الاستخدام الحر للعقل وتطوير العلوم التجريبية. معظم مفكري التنوير كانوا مؤيدين لحقوق الإنسان العالمية (باين، كانط) وكافحوا بأقلامهم الكبيرة لأجل الإصلاح الجنائي وضد الاعتقال التعسفي واستخدام التعذيب القضائي والتطبيق الواسع لعقوبة الإعدام (بيكاريا Beccaria، بنتام).
في الحقيقة، جميع أعضاء التنوير كانوا ضد رجال الدين. هم لم يسعوا إلى تحطيم الدين وإنما دعوا إلى التسامح الديني (ليسنغ Lessing). معظمهم طالب بفصل الكنيسة عن الدولة، وإزالة السلطة الدينية من التعليم. هم فضّلوا تعليماً عالمياً وانتشار المعرفة المرتكزة على بحوث تجريبية سليمة وعلى نظرية علمية موجهة نحو تحسين ظروف الإنسان. وبقدر ما يتعلق الأمر بالأخلاق، هم رفضوا الرؤية الثيولوجية حول الأخلاق. على العكس، طبقاً لمفكري التنوير، الأخلاق ظاهرة طبيعية يمكن توضيحها بالإشارة إلى التعاطف الإنساني الطبيعي والحاجات الطبيعية للتعاون الاجتماعي (هيوم، آدم سمث)، أو بالإشارة إلى الاستعمال الطبيعي للعقل الإنساني المستقل (كانط).
الإيمان بالعقل
إهمال الإيمان بالعقل سيخلق فراغاً ما لم يتم افتراض بديل. ولكن الدعوة إلى خيارات مثل (الوطنية الهائجة، كراهية الأجانب، الأصولية الدينية) هي ذاتها تستلزم اللجوء إلى أسباب سيئة وفقيرة تخضع لمحكمة العقل. جزء من الالتباس بالتأكيد يبرز من الفشل في التمييز بين وسيلة العقلانية الاقتصادية والمعقولية. الإحباط من العولمة، سوء توزيع الثروة، الوصول إلى المنافع الاجتماعية (الرفاهية، الرعاية الصحية، التعليم)، والاغتراب السياسي لا يمكن إصلاحها باللاعقلانية، وإنما فقط عبر المعقولية والنقاشات المعقولة. عندما ينهار ذلك، سيحصل الخراب المجتمعي.
هل نحن نعيش في عالم مفرط في العقلانية والمعقولية؟
كلا، ليس كذلك أبداً. افتقارنا إلى الاستجابة الجادة للتحديات الكبرى التي تواجهها البشرية، مثل الاحتباس الحراري، الانفجار السكاني، لم يكن عقلانياً أبداً. نحن نندفع كالقوارض نحو هاوية الارتفاع بمقدار أربع درجات في حرارة العالم في نهاية القرن وتزايد سكاني بمقدار 11.5 بليون نسمة.
شكلنا الحالي من الحياة المادية، الاستحواذية والشديدة المنافسة وغير الآمنة، يستلزم تفكك العائلة وإضعاف الهوية الاجتماعية، وفهم التعليم ليس كخير في ذاته وإنما فقط كإعداد للمشاركة في اقتصاد السوق، وفرض نموذج اقتصاد السوق وعلاقات النقود على العلاقات الإنسانية وعلى كل المؤسسات الاجتماعية (المدارس، الجامعات، المستشفيات، الخدمات العامة، الحياة الثقافية للأمة)، وكل ذلك ليس عقلانياً.
أي من هذه القضايا أو غيرها من المشاكل الأخرى سوف لن تُحل بالمزيد من اللاعقلانية واللامعقولية. هي يمكن حلها فقط بتحديد الحقائق ومواجهتها بالنقاشات العامة والحجج المعقولة.

التاريخ: الثلاثاء16-6-2020

رقم العدد :1002

 

 

آخر الأخبار
مبعوث ترامب يرحب بفتوى منع الثأر في سوريا   إغلاق مخيم الركبان... نهاية مأساة إنسانية وبداية لمرحلة جديدة  أهالي درعا يستقبلون رئيس الجمهورية بالورود والترحيب السيد الرئيس أحمد الشرع يؤدي صلاة عيد الأضحى المبارك في قصر الشعب بدمشق بحضورٍ شعبيٍّ واسعٍ الرئيس الشرع يتبادل تهاني عيد الأضحى المبارك مع عدد من الأهالي والمسؤولين في قصر الشعب بدمشق 40 بالمئة نسبة تخزين سدود اللاذقية.. تراجع كبير في المخصص للري.. وبرك مائية إسعافية عيد الأضحى في سوريا.. لم شمل الروح بعد سنوات الحرمان الدفاع المدني السوري.. استجابة شاملة لسلامة الأهالي خلال العيد دمشق منفتحة على التعاون مع "الطاقة الذرية" والوكالة مستعدة لتعاون نووي سلمي حركة تسوق نشطة في أسواق السويداء وانخفاض بأسعار السلع معوقات تواجه الواقع التربوي والتعليمي في السلمية وريفها افتتاح مخبز الكرامة 2 باللاذقية بطاقة إنتاجية تصل لعشرة أطنان يومياً قوانين التغيير.. هل تعزز جودة الحياة بالرضا والاستقرار..؟ المنتجات منتهية الصلاحية تحت المجهر... والمطالبة برقابة صارمة على الواردات الصين تدخل الاستثمار الصناعي في سوريا عبر عدرا وحسياء منغصات تعكر فرحة الأطفال والأهل بالعيد تسويق 564 طن قمح في درعا أردوغان: ستنعم سوريا بالسلام الدائم بدعم من الدول الشقيقة تعزيز معرفة ومهارات ٤٠٠ جامعي بالأمن السيبراني ضيافة العيد خجولة.. تجاوزات تشهدها الأسواق.. وحلويات البسطات أكثر رأفة