في زمن مضى.. كانت متيقنة أنها لن تعود يوماً.. قطعت كل طرقات عودتها، تلك الدروب المتعرجة بدت كورقات امتلأت بحبر لم يكن على مزاجها، فأحرقتها جميعها ومضت، حتى الخريطة أضاعتها والذكريات.. نسفتها كلها، وحين كانت تعاودها بعض الخيالات سرعان ما تهرب منها.
اليوم.. وهي مرغمة على العودة.. أغلقت نافذة الطائرة المضلعة، ورمت برأسها إلى الخلف، لا تعاند أي ذكرى، ولا تفكر بشيء… كل ما ينتابها شعور أنها غرست في طمي، لا أحد بإمكانه انتشالها منه.
حين استفاقت على صوت المضيفة تخيرها ( سمك أو دجاج) تناولت وجبتها الصغيرة ضمن العلبة البراقة، مع بعض قطع صغيرة من الفواكه والحلوى… بدا أن لا شيء بات يمتلك أي طعم، كلها سيان…
عادت إلى نومها القلق، سرعان ما استفاقت وهي ترى خيالات أشباح لم تفهم سرها، مدّت رأسها إلى الأمام، للمرة الأولى ترى هذا الجالس إلى جانبها، ينظر إليها باستغراب، كأنه يخشى منها، تنبهت أنها ليست وحدها على هذه الطائرة الكبيرة، وأن لكل راكب حكاية.. وربما يمتلك كثر تلك المناطق السرية المجهولة في العمق التي حاولوا الخلاص منها، وبقيت تلاحقهم كلعنة أبدية.
حتى لو هربوا منها إلى مكان قصي.. لو تخلوا عن ذاكرتهم، وأسمائهم..وخيالاتهم.. شيء ما.. سيبقى يرمي بهم الى جذورهم…
أعادت رمي رأسها الى الخلف، أتقنت هذه الحركة التي تبديها متهالكة.. وفتحت نافذة الطائرة، حين رأت كل هذا المدى البحري، وهذا الكون اللانهائي من فوق.. سخرت من هروبها العبثي، التي تصارعت معه..
وأدركت الآن وهي تعود أن تلك الخرائط التي اعتقدت يوماً..أنها أحرقتها.. إنما هي نسجت كوشم أزلي على جسدها.. وأن تلافيف ذهنها… حفظت كلّ الدروب المفضية إليها…
أخيراً: استفاقت على صوت مضيفة الطائرة تعلن أنهم أصبحوا على الأرض…!.
رؤية – سعاد زاهر