الثورة أون لاين:
يأخذنا عرض «ترنيمه على جدران الوجع» إلى حيز مكاني غريب، لنعيش فيه مع بطلة العمل «زهره العلي» في بقايا بيت مهدم تحول إلى دشمة، احتمى فيها بعض جنودنا للدفاع عن المدينة المحاصرة، واستشهدوا جميعاً وقوفاً كالأشجار كما تذكر لنا بطلة العرض.
خلف تلك الدشمة ستخبرنا «زهرة العلي» عن واقعة استشهادهم وبقايا أشيائهم الصغيرة، وطيف أرواحهم الزكية التي تملأ المكان وتؤنس وحدتها.
«زهره العلي» التي ترفض فكرة لقب الأرملة. تصبر وتصابر هناك بانتظار ابنها الصامد على خط النار. تصرّ على البقاء كي لا تخسر الحرب مرتين. تثق بعودة ابنها ورفاقه للمدينة، ليمسح ندوب الحرب عن وجهها المشرق، تعاند فكرة الهروب كغريبة إلى أرض غريبة، وفوق قارب غريب، لتموت غريبة، فتغرس جذورها بأرضها وتبدأ تحاكم تاريخ الحروب التي مرت على أمتها كبعد قومي لفكرة العرض.
تستحضر الكثير من شخصيات تعرفها لتقدم الحجج لبقائها وصمودها وثباتها. تحتفل بالنصر القادم بلا ريبة.. تتغزل بشآم هي قرآن الأمة.. تتقيأ الوجع وتترنم بالفرح. تلوك صبرها وعتبها، وتعجن خبز قمحها الصابر بماء الأمل ليورق زرعها من جديد.
إنها تغريبة المرأة السورية عبر كل سنوات الحرب الظالمة. العرض مرآة صادقة لواقع معاش بكل مرارته، حاولت أن أضفي عليه ألوان الفرح والأمل، وبحتمية أن خسارة معركة لاتعني خسارة الحرب، فحبل صبرنا طويل جداً، ومتصل بكلِّ ما يتعلق بخلاص بلدنا من براثن قوى البغي والاستكبار .
نعم، “ترنيمة على جدران الوجع” عرض للواقع الذي عشناه بكل تفاصيله.. نعود لنسأل “العاقل” عن سبب اعتماده فيه على أسلوب المونودراما، فيكون ما يقوله:
لم أتقصد المونودراما عن سابق إصرار، لكن وجودي على الأرض وبين الناس طيلة سنوات الأزمة، محاولاً تقديم ما استطعت إليه سبيلاً لكفكفة جراح الناس، جعلني أستمع للكثير من أحاديث الأمهات والزوجات والعاشقات اللواتي فقدن أحبتهن على مذبح كرامة الوطن. صبرهن وعزيمتهن أدهشاني. من هنا خطرت لي فكرة المونودراما واستحضار نموذج حي على الخشبة لاجترار مفردات الحرب على لسان إحداهن، لنسترجع معها مفردات الحرب الموجعة، ونزرع بذور الأمل بقدسية دفاعنا عن أرضنا ووجودنا، وسواد الملابس الذي فرضته قوى البغي على نسائنا كلون للوجع الأنيق، يخفي خلفه آلاف رسائل المحبة التي تملأ قلوب السوريين للعالم أجمع.
أدرك تماماً أنها مغامرة تستوجب الكثير من الجهد والتعب الجميل، ولكن الفكرة كانت مغرية لي وللممثلة «رانيا الخطيب» التي تصدت للشخصية وبذلت جهداً استثنائياً على مدار خمسين دقيقة على الخشبة، لتقديم عرض يليق بصبر المرأة السورية على بلوى الحرب، وتعزيز الثقة بالنصر المحتم، وطالما لعبت المرأة هذا الدور عبر التاريخ. المرأة الأم والزوجة والأخت والأبنة والحبيبة.
نسأله أيضاً، عن أهمية استمرار النشاط الثقافي وتفعيل دور الثقافة ومسؤوليتها في مثل ظروفنا.. ظروف الحرب التي جعلته يردّ على سؤالنا:
طالما كانت الحروب بكل بشاعتها وسوادها مادة دسمة للكتاب والأدباء والفنانين، لتسليط الضوء على مختلف وجوهها ومنعكساتها السلبية على حياة حطبها التي هي الشعوب، فقد انبرى المسرح عبر العصور ليزيل ورقة التوت عن حقيقة وجه الحرب البشع، وليضيء بنفس الوقت ذبالة ضوء يقاربها في آخر النفق، ومن هنا تبرز أهميته بنشر الوعي والأمل بأن الحياة للعاطلين عن الشر والحروب والدم. الحياة التي هي حالة إبداعية بكينونتها الأولى، فـ «أم ذيب الشاهين» في عرضنا، هي المرأة السورية التي عانت كل ويلات الحرب على بلدنا، وهي التي وقفت خلف دشمة على أطراف مدينتها التي هدمها مرتزقة الظلام ممن جندتهم مطابخ سياسات العالم القذر، وبرغم كل الوجع وهول الحرب، تغرس «أم ذيب» ما تبقى لها من أحلام في عمق أرضها. تقارب الحرب من كونها السورية التي ولدت قبل التاريخ بتاريخ، والمرأة التي استمرأت فكرة أنها عصية على الموت. «أم ذيب» التي تنتظر ابنها الصامد على خط النار بورود الألم والأمل واثقة بعودته منتصراً، تستند في حجتها إلى دروس التاريخ، وتستذكر جارتها الفلسطينية والعراقية واللبنانية اللواتي جُربت في بلدانهن كل أنواع الحروب، ولم تفقدهن عنادهن بأنهن وشعبهن باقون والحرب زائلة.
“أم ذيب” ترنم الوجع بترتيلة من مقام الفرح والثقة بالنصر. تقدم البراهين أن شآم ستنتصر في الحرب التي فرضت عليها بثبات عزيمة أهلها، وستعيد نشر عطر ياسمينها على العالم أجمع، وستبقى قافية الشعراء وقبلة العشاق، ووطن الخائف وبيت أمان كل غريب. إنه المسرح الكبير ولنا فيه الحياة .
إنه دور الفن المسرحي.. دور الثقافة التي كان لابد أن نختم، بقوله عن مسؤوليتها في مثل ظروف الوباء الذي يفرض الجمود والتباعد؟
لا شك أن وباء الكورونا كان له تأثير سلبي كبير على كل مناحي الحياة، ولكننا كبشر محكومون بالأمل، والفن هو أحد أهم أدوات الأمل. لقد راعينا بالعروض كل شروط السلامة والتباعد والتعقيم، وقد وجد الحضور متنفساً لهم بمتابعة العرض وسط كل هذه الهموم التي نعيشها، وسيبقى سحره الدواء للروح وللذائقة الإنسانية الجمعية.
آنا عزيز خضر