الثورة أون لاين – علي الأحمد:
لا بدّ من تضافر الجهود، وترسيخ هذه الحالة الإبداعيّة الأسمى، من نتاجات الموسيقى العربيّة الأصيلة، من قبل الوزارات والمؤسّسات المعنيّة بالشأن الثقافي والإعلاميّ، في كلّ البلاد العربيّة، نحو التأسيس لنهضة موسيقيّة عربيّة جديدة، تأخذ بعين الاعتبار، التحوّلات العميقة التي ألمّت وأثّرت في بنية المجتمعات العربيّة، نحو مزيد من التغريب والتقليد الأعمى للآخر المغاير، من دون إدراك ووعي لهذا المسار الذي وضع الموسيقيّ المعاصر موضع التساؤل والاتهام بقطيعته المعرفيّة مع الماضي الناجز، وبالتالي عدم قدرته على استشراف المستقبل الموسيقيّ انطلاقاً منه.
لكن لا بدّ من السؤال هنا: هل بمقدور الموسيقيّ العربيّ اليوم، القيام بهذه النهضة الموعودة، والتأسيس لمرحلة ما بعد العولمة بمالها وعِليّها، من دون دفع أثمانٍ باهظة من رصيد وخزين هويته الموسيقيّة الأصيلة؟، إنه سؤال الأسئلة المريرة التي أفرزتها مراحل التغريب وصعود لغة التقليد التي ابتدأت تطلّ على المشهد المعاصر منذ نهايات القرن الماضي، حين بدأت ملامح الموسيقىّ العربيّة تتغيّر وتتبدّل وتفقد سماتها الأصيلة، لمصلحة موسيقى هجينة، ابتدأت مع حقبة أغاني “الفرانكو آراب” ووصلت إلى مرحلة العولمة وما بعدها في هذه الألفية الثالثة العتيدة، وهذا له مسبّبات كثيرة من أهمها، غياب الروّاد الكبار من شعراء وملحنين وموزّعين، ودخول تقانات وتقنيات وأدوات غربيّة إلى قلب هذا المشهد لتأخذ مكان ومكانة التقنيات الأصيلة، من دون وعي معرفيّ بخطورة هذا التحوّل المصيريّ الذي انعكس سلباً على عناصر الإبداع في الموسيقى العربية من مقامات وإيقاعات وغياب فنّ الارتجال وغير ذلك من مسارات تغريبيّة أفضت في واقع الحال، إلى تغييب ونبذ المفاهيم الجماليّة والذوقيّة التي لازمت هذا الفنّ الأصيل عبر التاريخ.
بالمناسبة لحظ مؤتمر الموسيقى العربيّة الأول الذي انعقد في القاهرة عام ١٩٣٢، حوالي الخمسين مقاماً مستخدمة بشكل كبير في الموسيقى العربيّة، وإذا جمعت المقامات في تونس والمغرب والجزائر وغيرها من مقامات لوصلت إلى حدود المئة مقام، يستخدم منها الموسيقيّ المعاصر حوالي الست أو سبع مقامات، والأمر ذاته ينطبق على الإيقاعات ولنتأمّل ذلك بعين البصيرة.
إذاً… هذه النهضة دونها عقبات وعوائق خاصة بعد أن انفّض الجميع عن هذا الفنّ الأصيل، وبقي أعضاء مؤتمرات الموسيقى العربية وحدهم يصرخون ويتألّمون لواقع وحال موسيقانا العربيّة الذي لا يسرّ أحداً بكلّ تأكيد، نعم نجحت العولمة في تحويل المسارات الإبداعيّة لموسيقات الشعوب ومنها موسيقانا، إلى مزيد من التبعيّة والاندماج الأعمى في السوق الإنتاجي المعولم الضخم والمرعب بقوّته الاقتصاديّة المدمّرة، الممتد على كامل وتفاصيل هذا المشهد المعاصر الذي يتخفّف كما تريد هذه المنظومة المؤدلجة، من كل ما هو أصيل ونبيل في هذه الموسيقات التي تتغلغل فيها وتتجذر، نتاجات الخفّة والاستعراض لتفقد تدريجياً الكثير من سماتها وخصوصياتها المكتسبة، وهذا بحدّ ذاته مشكلة خطيرة لا بدّ من معالجتها بالعودة إلى قواعد وأصول الكتابة والتأليف المبنّي على علوم ونظريات متقدّمة، لا على وسائل التكنولوجيا الحديثة والبرامج الذكية، التي تقف عاجزة أمام تحقيق هذه النهضة لأنها تقدّم حلولاً جاهزة هي أقرب إلى “الموضات الموسيقيّة العابرة” ولا تلحظ أبداً تقاليد وخصوصية هذه الموسيقات التي هي أولاً وقبل كلّ شيء روح وميراث هذه الشعوب الثقافي والفكري.
نعم هناك أمل، وأمل كبير بالموسيقيّ العربيّ الذي يمتلك بالإضافة إلى علومه ومعرفته الموسيقيّة المتقدّمة، القدرة على اجتراح الحلول الناجعة بمساعدة ومباركة علماء وحكماء هذا الفنّ وهم موجودون في أكثر البقاع العربيّة من حسن الحظ، وهنا يأتي الدور المأمول، من وزارات الثقافة والإعلام العربيّة، في دعم مشروع هذه النهضة التي تتطلّب إحداث منصّات إنتاجيّة وإعلاميّة عديدة، تحتفي بالأصيل المتجدّد بأدوات الحداثة، لموسيقى عربيّة مغايرة، تقرأ الواقع المعاصر وتعبّر عنه بكلّ صدق، موسيقى إنسانيّة تنثر بذورها الطيّبة في ذائقة المتلقّي العربيّ، وتعيد هذه الحالة الإبداعيّة الأسمى إلى سابق عهدها، بعيداً عن السائد المعمّم بقوة المال والإعلام، ومن أقدر من هذا الموسيقيّ ليقود هذه النهضة وهذا المسير الطويل في البحث عن الزمن الموسيقيّ المفقود، وفي كتابة موسيقى عربيّة حقيقية، ذات توق حضاريّ وإنسانيّ، تؤكّد من جديد، أنّ الفنّ الحقيقي هو الذي يبهج الناس جميعاً وفي كلّ العصور.