لا أعتقدُ أنَّ ابن رشد (1126_1198)م الفيلسوف العربي الأشهر، الذي نبغَ أيضاً في الطبِّ والفقهِ وعلم الفلك وعيّنه أبو يعقوب يوسف خليفةُ الموحِّدين طبيباً له ثم قاضياً في قُرطبة، ثم تولّى منصب القضاء في إشبيلية، كانَ يتخيّل أن الأوربيينَ سيطلقونَ اسمَهُ على أحد الكويكبات، وأنَّ دانتي سيتحدّث عنه في “الكوميديا الإلهيّة”، وأنَّ رافائيل سيرسُمهُ في لوحتِهِ الشهيرة “مدرسة أثينا” وهو يقفُ خلفَ فيثاغورس، وأن جيمس جويس سيستوحيهِ في “يوليسيس”، وأنّه سيكون محورَ فيلمٍ سينمائي شهير: “المصير”، وأغنياتٍ، مختلفة، وأنّ أعمالَهُ ستترجم بعد وفاتِهِ إلى اللاتينيَّة، فتتأسسُ بتأثيرها مدرسةُ “الرشديّة اللاتينيّة”، التي سيمتدُّ تأثيرها أربعة قرونٍ كاملة… وأن مئات الكتب ستنشَرُ عنه وعن فكرِهِ وكتبه، وأنّ بني قومه سيعودونَ إليهِ مطلع القرن العشرين أو قبله بقليل يدرسونَهُ ويحاورونَهُ، كما فعل فَرَح أنطون في كتابِهِ” ابن رشد وفلسفته_1903″، وصولاً إلى محمّد عابد الجابري الذي يُعدّ عند كثيرين مُبشِّراً بفكر ابن رشد وفلسفتِهِ…
والحديث عن ابن رشد لا ينتهي أبداً، لكنني في هذهِ الزاوية الصغيرة أحببتُ أن أتحدّثَ عن استلهام خورخي لويس بورخيس (1899_1986) الكاتب الأرجنتيني الشهير له في قصتِهِ القصيرة التي تُرجمت مَرَّةً بعنوان “بحث ابن رشد”، وأخرى بعنوان: “ابن رشد واقتفاء المعنى”.
قد يعرف الكثيرون أن بورخيس أتقنَ لغاتٍ عدة: الفرنسية والألمانية والإنكليزيّة والإيطاليّة، وساعَدهُ ذلك على اكتسابِ ثقافةٍ موسوعيّة، وكان معجباً أيّما إعجاب بالتراث الأدبي العربي الإسلامي، وتراث الشرقِ عموماً، وعَبّر عن ذلك كثيراً، ولا سيّما عن تأثير”ألف ليلة وليلة” في إبداعِهِ، حتى إِنّه كتبَ ذات يوم عملاً جميلاً سماهُ “سبع ليالٍ”، تحدّث فيه عن هذا الكتاب الباهر الذي أثَّرَ في العالم الغربي وأدبه بصورةٍ منقطعةِ النظير.
قصّة بورخيس “ابن رشد واقتفاء المعنى”_ والترجمة لعيسى مخلوف – مبنيّة على فكرةٍ مفادها أن ابن رشد خلال عملِهِ على شرح أعمال أرسطو _ هذا العمل الشاق، الجبّار الذي استهلكَ من الرجل 15 عاماً، وكان بمنزلةِ كنزٍ ولقيَة للأوربيين فيما بعد_ أخطأ في فهمِ مصطلحينِ مهمَّيْنِ ومتكرّرينِ بكثافة في كتاب أرسطو “فن الشعر”، هما “تراجيديا وكوميديا” ويَردُّ القاص بورخيس هذا الخطأ إلى جهل ابن رشد باللغتين السُّريانيّة واليونانيّة، واعتمادِهِ على ترجماتِ آخرين: كحنين بن إِسحاق وأبي بشر متّى، مع أنّه يشهد له بالصبر والدأبِ والقدرة على البحث… وإلى عدم وجودِ مسرحٍ عند العرب والمسلمين، فكانَ من شأن ذلك أن يحرمَ العربَ والمسلمين معرفةَ المسرح.
جاء في مقطع من القصّة: “فأضاف إلى مخطوطته، بخطٍّ ثابتٍ ومُتقن؛ هذهِ الأسطر: “يسمّي أرسطو “تراجيديا” المدائح، و”كوميديا” الهجاء واللعنة. هناك صفحات رائعة من الكوميديا والتراجيديا يزخر بها القرآن ومُعلّقات الحرم”.
وكان بورخيس قد استهلَّ قصَّتَهُ بعبارةِ إرنست رينان: “كان يتصوّر أن المأساة (التراجيديا) لم تكن سوى فنِّ المديح”.
والحقيقة أن ثقافة بورخيس الموسوعيّة ومعرفته بالتراث العربي قد تجلّت في هذا النص، فإلى جانب ابن رشد نجد ابن سِيْده وابن طُفيل والجاحظ والغزَّاليّ، وحنين بن إسحاق، وزهير بن أبي سُلمى، وابن رشيق وابن شرف القيرواني، وعبد الرحمن الداخل (الخليفة الأموي).
تبدأ القصّة ذات صباح جميل في دار ابن رشد في قُرطبة، وتستمرُ الأحداث نهاراً واحداً، ولا بُدّ لمن يقرأ هذهِ القصّة، ويكونُ على معرفةٍ بكتبِ الأخبار العربيّة القديمة والنثر العربي، أن يعثرَ على أواصرِ قُربى شديدة بين نص بورخيس_ وكثير من أعمالِهِ عموماً _ وتلكَ الكُتب، ولعلّ هذا الأمر الذي نُحِسُّهُ نحن كقرّاء، قد دفَعَ الناقد السوري خلدون الشمعة منذ نحو 40 سنة إلى الإشارة الواضحة إلى العلاقة بينَ بورخيس الأرجنتيني ذي الكتابةِ الحداثويّة وفنِّ القصِّ العربيِّ؛ وذلك في كتابهِ “المنهج والمصطلح / مدخل إلى أدب الحداثة_ دمشق 1979″، فترجمةُ كتبٍ مهمّة من العربيّة إلى اللغات الأوربيّة مثل “طوق الحمامة” لابن حزم الأندلسي، و”الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، و”نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة” للتنوخي وغيرها من الكتب العربيّة التي ضمّت مزيجاً من الأجناس الأدبيّة كالأخبار والقصص المرويّة والنصوص الشعريّة، وغيرها ممّا هو موسوعيٌّ إلى حدٍّ بعيد، وما يجمع بين الأدب والتاريخ وسواهما، كل ذلك ممّا وقَعَ بين يدي بورخيس القارئ الموسوعي النَّهم جعلهُ يطرح إبداعاً يمزجُ فيهِ بين الخبر والقصّةِ والتأريخ على غرار القصة التي نحن بصددها، لكنَّ الغريب في الأمر_ والذي أثارَ لديّ سؤالاً مُلحّاً_ أن بورخيس العارفَ بتفاصيل حياة ابن رشد وبإنجازاتِهِ الباهرة قياساً إلى زمنه وبمأساتِهِ المعروفة؛ حينَ كَفّرَهُ المتزمّتون، وأحرقوا كُتبه ونفوهُ، لم يتوقّف إلاّ عند إحدى عثراتِهِ؛ ألّا يثير ذلك تساؤلاً؟! ألا يخفي موقِفاً؟! أمّْ إِننا نفكّر الآن بعقلٍ عربيٍّ اعتاد أن يبنيَ أصنامَهُ، اعتادَ أن يرفعَ البشر إلى مصاف الآلهة، ما يحجبُ نقاطَ ضعفهم، وأخطاءَهم لا أدري حقيقةً؟ لكنّه سؤالٌ خَطَرَ ببالي، ومشاعر خالجتني؛ ربّما لو خطرتْ ببالِ بورخيس لاختارَ فكرةً أخرى تتعلّق بابن رشد…
أو لكانَ سَخِر من كل ذلك، وتابَعَ كتابته بفكرٍ باردٍ ثاقب!
إضاءات – د. ثائر زين الدين