الثورة أون لاين – علي الأحمد:
هذه السلالة النادرة من الأصوات الساحرة، هي إحدى تجليات زمن الفنّ الجميل المكتمل، شعراً ولحناَ وصوتاً وأداء، هو زمن كريم ونبيل، بمنتوجه الإبداعي المديد، الذي لم يبخل أبداً على أذن وذائقة المتلقي العربي بسحر وجمال وعذوبة الغناء الأصيل، غناء القلب والروح، وعلى كلّ المستويات الدينية والوطنية والعاطفية، وفي كلتا الموسيقتين، الفنية التقليدية، بأصولها العلمية والمعرفية المتقدمة، والشعبية المتجذرة في تلك الروح الشعبية بأصالتها المعهودة، وبساطتها الإنسانية المدهشة.
نعم، هي أصوات كبيرة بكل المقاييس النقدية والجمالية، لم تستكن أبداً لمنجزها الإبداعي ونجاحها الجماهيري الذي تحقق بمباركة صحبة فنية تقاسمت الهم الإبداعي والإنساني المشترك ،في سبيل صوغ سبيكة من الجمال الإبداعي النادر ،تستقي مرجعيتها ،من أصول وقواعد علمية في طرق الأداء، والحس الجمالي التعبيري، بالكلمة ومخارج الحروف ،بتأثير لا يخفي مدرسة التجويد القرآني ،التي خرّجت كما هو معلوم ،أعلام كبار في الغناء والأداء التعبيري الدرامي ،الموسيقار محمد عبد الوهاب ،وسيدة الغناء والأداء المبهر أم كلثوم ،والكبير صباح فخري ،وغيرهم من علامات مضيئة في تاريخ الغناء العربي المعاصر ،كما ساهمت التراتيل الكنسية بدورها، في تخريج أسماء كبيرة بحق انضمت إلى هذه السلالة الإبداعية التي لن تتكرر ،الكبيرة البهية دائماً السيدة فيروز ،والكبير الراحل صاحب الصوت المعجز بحق وديع الصافي ،وغيرهم ممن كتبوا تاريخاً مضيئاً وحضوراً جميلاً ،لفن الغناء العربي المعاصر ،بعد رحلة طويلة ومسار إبداعي لم يتحقق إلا بعد صعوبات وعوائق كثيرة ،من اكتساب العلم والمعرفة ،وتراكم الخبرات الجمالية والذوقية ،واقتران هذا الغناء الأصيل بالتعبير الدرامي والتصوير الوجداني ،الذي تأسس كما هو معلوم ،مع أبو الحداثة في موسيقانا العربية الشيخ سيد درويش ،الذي نقل موسيقانا من أسر اللغة الطربية الحسية وطقوسها المغلقة ، إلى تجليات وجماليات اللغة الطربية النفسية ،والفرق هنا بيّن وشاسع ،وكما أسلفنا نلتمس ملامح هذه النهضة عبر أعمال كبيرة ومهمة في المناسبات الدينية والوطنية والعاطفية ،يكفي أن نستحضر مفهوم القطعة الممتازة في موسيقانا العربية والغناء التعبيري الدرامي الموجود في الموسيقى الغربية الكلاسيكية، على سبيل المثال لا الحصر مع دور ضيعت مستقبل حياتي، لسيد درويش ،ورق الحبيب للموسيقار المجدد محمد القصبجي ،والآهات، والأولة في الغرام للكبير زكريا أحمد ،ورباعيات الخيام والأطلال للموسيقار الكبير رياض السنباطي ،وللصبر حدود وإسأل روحك ،للمبدع محمد الموجي ، وبنادي عليك، لاوعينيك للموسيقار الخالد فريد الأطرش ،وسيرة الحب وبودعك للرائع بليغ حمدي ،وأغنيات في البال لأصوات مهمة لا تنسى ،ياللي هواك شاغل بالي للأميرة الكبيرة أسمهان ، أنت قلبي، وقارئة الفنجان للعندليب عبد الحليم حافظ ،وأنا قلبي لك ميال ،لفايزة أحمد ،وأيظن لنجاة الصغيرة ،وانا قلبي دليلي ،للجميلة ليلى مراد ،وسماح للرائع محمد قنديل ،ورح حلفك بالغصن ياعصفور لوديع الصافي ،وغيرها من أعمال عظيمة لا تزال إلى يومنا هذا تحظى بالتقدير والاهتمام، أغنيات سكنت الروح والوجدان، ولا يفوتنا أن نذكر بمطربين أغنوا مسير هذا الفن بروائع خالدة أمثال طلال مداح ،وعوض الدوخي ،وزكي ناصيف وصباح ، وملحم بركات، وعبد الهادي بلخياط،وعبد الوهاب الدكالي، وسونيا مبارك، ومحمد حمزة، وفي سورية، نجيب السراج وفهد بلان ومها الجابري وماري جبران وزكية حمدان ومحمد خيري وصبري مدلل،فؤاد غازي، وفي العراق، ناظم الغزالي، فاضل عواد، حسين نعمة، وسعدون جابر ولاننسى بالطبع التراث الكبير والضخم الذي تركه الرحابنة بمباركة من شاعرة الصوت فيروز وتلك الصحبة الفنية التي تتلمذت أو شاركت هذه المؤسسة الفنية العظيمة.
وبالطبع من الصعوبة بمكان الإحاطة بكل هذه الأصوات الكبيرة في موسيقانا العربية ،فهي أكثر من أن تعدّ أو تحصى ،أغلبها يتابع المسار والمسير الذي اجترحه أولئك الرواد ،وبعضهم اختط لنفسه مساراً مغايراً ،لكنه ينتمي بشكل أو بآخر لتراث مدرسة الغناء العربية الكلاسيكية ،لتنعم موسيقانا العربية بصحبة ومباركة هذه الأصوات الجميلة الندية التي تؤكد من جديد أن فن الغناء الأصيل لا يموت أبدا ،مهما أحاط به متطفلون ومهرجون وأدعياء !.