الثورة أون لاين- علي الأحمد:
” ياأهل المغنى ،دماغنا وجعنا ،دقيقة سكوت لله
داحنا شبعنا،كلام ماله معنى ،ياليل وياعين ويا آه”
إنها لغة التمرد والثورة على المبتذل الحسي العابر ،حتى لوكان غناء وصوت جميل ،هو شأن بيرم التونسي ،هذا الشاعر الفذّ ،المتوج كأمير حقيقي في الشعر والابداع ،صاحب الروح القلقة ،وأحد حاملي شعلة الحياة الخالدة ،التي لم تنصفه أبدا ،بالرغم من كفاحه الطويل وتوقه الدائم للدفاع عن جوهرها الانساني النبيل ،لقد خانته هذه الحياة وخذلته مرارا الى حد الفجيعة ،كما خانه أصدقاء العمر وأصحاب الكار ،لقد عايش حلمه في التماس كل ماهو نقي وأصيل في هذه الحياة وإعادة تشكيله وصوغه كعقد من اللآلى والدرر ، واللقى الشعرية النادرة ،التي توجّته بعد كفاح مرير كأمير “جان” الشعر الشعبي ،وكمريد صوفي حقيقي في اجتراح واستنباط لغة شعرية غير مسبوقة فكرا وتعبيرا ،هذه اللغة الطازجة بنضارتها ودفئها الحميم كرغيف خبز مشتهى ،وضعته من دون شك في مصاف المبدعين الكبار ،ممن تركوا بصماتهم وحضورهم النبيل دوما في صقيع اللغة الشعرية المستباحة جمودا وسكونية ورسالة .
– ورسالة بيرم التونسي ،في الشعر والفن والحياة ،كانت على الدوام مثار تساؤلات نقدية ،وفكرية ،كونها رسالة تمردت على السائد العابر ،على الأصنام الراسخة في المشهد الأدبي المكرسة إعلاميا ، كما تمردت على عادات وتقاليد بالية إلى حد الإهتراء الروحي والوجداني ،على تأبيد التخلف والتكلس الفكري والجمود الابداعي ،في شتى مجالات الحياة ،وكان في كل ذلك ، ينهض دوماَ كطائر الفينيق من رماده ،من غربته الروحية المديدة ،ومن عفن ورطوبة منافيه المتتالية ،كصقر جريح يأبى الذل والخنوع والاستسلام ،بالرغم من جراح قلبه المدمى ،وبالرغم من وجعه النبيل عما آلت اليه البلاد العربية خاصة في حقب الاستعمار بأقنعته التي هتكها وعرّاها بشعره البديع ،بسحر كلماته الشفيفة وطاقاتها الابداعية المتوثبة التي فجرت الشارع العربي ،كنيزك جميل، أضاء سماء الأرض العربية وحوّل ترابها الى اخضرار دائم وبهيج ،بعد أن تصحّرت وجفت فيها ينابيع الحياة والخلق والابداع .لقد قطف عشبة خلوده المشتهى ،قطف مجده الشعري الذي لايُدانى ،قطفهما من هذه الروح المتمردة ،من خزين ابداعي لايُجارى ،من ذاكرة مثقلة بكل ماهو اصيل ومتجدد في هذه الحياة المريرة التي لم تمنحه إلا بضع لحظات هانئة قليلة ،ذاكرة متخمة بالفكر الحر النقي، والصور التعبيرية والخيال الابداعي الجامح ،سكب كل ذلك في حنجرة العامل والفلاح والمرأة والمغني ،في سبيكة ابداعية مشغولة من ذهب حقيقي ،ومن روح جامحة ومتمردة ،على المستويين الحياتي والابداعي ،دفع من أجلها أثماناً غالية وبددّ رصيدا مستمرا من فرحه المؤجل وحلمه المشتهى ،كي يكتب قصيدة وجعه المُر ،التي سال عسلها اللذيذ على كل شفة ولسان من المحيط الى الخليج خاصة كما أسلفنا، إبان زمن المد القومي ومقارعة الاستعمار وأعوانه وهو هنا وفي كل أعماله الباذخة جمالأ وتعبيرا في الشعر والكتابات النثرية،والمقامات الساخرة اللاذعة كالسوط المدمي ، ،والرواية ،والمسرحيات ،والأزجال ،والمواويل ،وغيرها لم يكن إلا الفنان والشاعر الانسان الذي يقدم رسالته الابداعية دون تصنّع او تكلف او ابتذال بمضامينها الثورية المتمردة ونقدها اللاذع البنّاء في قراءة الحياة والناس قراءة جوانية تفضي الى الانتفاض على كل مايشوه وجه هذه الحياة وروح هذا الانسان أينما كان .يقول هنا: “. ياشرق فيك جو منوّر
والفكر ضلام
وفيك حرارة ياخسارة
وبرود اجسام
فيك تسعميت مليون زلمة
لكن أغنام
لا بالمسيح عرفوا مقامهم
ولا بالاسلام
هي الشموس بتخلي الروس
كده هو بدنجان
يكفي هنا أن نستذكر بعض من روائعه الغنائية التي أثرت وأغنت الذائقة والأذن العربية ،التي تفتحت عبر أصوات مهمة في تاريخ الغناء العربي المعاصر فهو صاحب الروائع الكلثومية :” أهل الهوى ،أنا في انتظارك ،هو صحيح الهوى غلاب ،حبيبي يسعد أوقاته ،الورد جميل، الأوله في الغرام القلب يعشق كل جميل، حبيبي يسعد أوقاته،وحلم ،وغني لي شوي ،وقولي ولاتخبيش يازين ،من فيلم سلامة والحان المبدع الأصيل” زكريا احمد ،شمس الأصيل، ظلموني الناس، الحب كده، ليه يابنفسج من الحان السنباطي ،ورائعته وحدة مايغلبها غلاب بصوت محمد قنديل والحان عبد العظيم عبد الحق ،والليل ياليلى ،من الحان عبد الغني الشيخ ،وغناء صباح فخري ،احبابنا ياعين ، وبساط الريح ،وهلت ليالي حلوة وهنية من الحان وغناء
الموسيقار الخالد فريد الاطرش ،و مااحلاها عيشة الفلاح ،ويللي زرعتو البرتقال من الحان وغناء الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب ،ورائعته الفاتنة انا اللي استاهل للأميرة أسمهان ” ،وياصباح الخير ياللي معانا ،من فيلم فاطمة وغناء ام كلثوم للمجدد محمد القصبجي، ،ولاننسى بالطبع تعاونه المثمر مع رفيق الدرب والمسير الابداعي المشترك الشيخ سيد درويش الذي كتب له نصوصا ابداعية عظيمة ومسرحيات وادوار مهمة من اشهرها دور أنا هويت وانتهيت. تبرز هنا قصيدته الرائعة التي هاجم من خلالها بعض الأقلام المأجورة التي هاجمت الشيخ سيد بعد مماته يقول فيها :”
هوّ القديم ياقوم يقدم في ليلة ويوم
هو بصل أم توم. ولاّ بلح إبريم
ده فنه لو ينزاع. وف تسجيلات يتباع
لتصبحوا. صيّاع. ماتكسبوش مليم.
انا عشقت بكام؟ وانا هويت ياسلام
ومنيتي دي غرام. أروح معاها غريم
هو العظيم ياناس في أرضكم ينداس
والتافه الهلاّس نشبعه تكريم
– هذه لمحات خاطفة للتعرف على تلك القريحة الشعرية وعلى تلك القامة الأدبية السامقة حبا وجمالا وعطاء خلاّق ،لواحد من أعظم شعراء العامية في العصر الحديث الذي نرى طيفه في ابداعات الزمن الغنائي الجميل ،التي شارك هذا الفارس النبيل في صياغة حروفه بريشته الساحرة ،بحضوره البهي ،بقصيدته الموجعة المتمردة ،بجمالية لغته المائزة،نراه كصياد ماهر يلتقط ويصوغ أجمل الصور بمرارة وضحك كالبكا كما نرى في رائعته ” باريس ” التي هاجم عبرها مقولات التقليد والاستنساخ التي سادت وقتها في ولع غير مسبوق بالآخر اي كما يحدث في أيامنا هذه يقول :”
باريس تقول قصرّوا الفساتين نقصرها
ترجع تقول طوّلوا. حالاً نجرجرها
وفي الشتا قوروا القمصان نقورها
وفي الصيف زرّروا الأرواب نزررها
وتقول باريس احلقوا الشنبات ،نحلقها
وتقول لنا الدقن مودة اليوم ،نلزقها
عميان وعايزين لنا مجانين تسحبنا
ولو يخوضوا بنا الأوحال. يعجبنا
مين شاف خلافنا أمم بتحب جزارها ؟!
– هذه بضع كلمات في شاعر الكلمة الندية البهية وملامسة خجول لروحه المبدعة التواقة للجمال ولكل ماهو انساني عظيم ،وتحية متواضعة لمبدع خالد اسمه بيرم التونسي ،الشاعر الانسان الذي كما أسلفنا ، خذلته الحياة وقتلته الغربة الروحية والجسدية لكنه باقٍ يعيش بيننا بشعره الكبير البسيط والعميق فكرا وتعبيرا ،باق عبر أصوات الزمن الغنائي الجميل النادر نستذكره بسبب حضوره المضيء في الذاكرة والوجدان والابداع الحق في زمن عزّ فيه الابداع والجمال ولانرثيه لأنه عصي على الغياب ،يقول فيه الشاعر الجميل ” صلاح جاهين ” في واحدة من روائعه بعنوان بكائية إلى بيرم :
…مين اللي مات ياشب يابو دموع
قالت عروس الشعر للموجوع
مين اللي مات ياشب قل لي ياخويا ؟
قالت عروس الشعر ..لايكون ابويا
انا قلت ابونا كلنا ياصبية
مات زي ماكتف الجبل يتهد
مات باقتدار وفخار ماقالش لحد
بيرم..ومات ماشي في طريق الغد
وجنازته ماشية اهه في شارع السد
والنعش عايم في الدموع في عينيا .