بدأنا نلاحظ في السنوات الأخيرة أن أغلب التعامل مع المواقع الإلكترونية، وكذلك البرامج المتاحة على الأجهزة الذكية إنما أصبح تعاملاً عاطفياً أكثر مما هو عقلاني، إذ يسير البحث باتجاه كل ما يحرك العاطفة، والشعور، لا نحو ما يوقظ العقل، ويثري المعرفة. والدليل على هذا هو الرواج الذي تحظى به مواقع، وبرامج دون غيرها، وهي تتزايد بما يتناسب وعدّاد الأرقام الذي يسجل دون هوادة للمتابعين في منحى تصاعدي.. وهذا يدفع بدوره بالتالي شركات البرمجيات إلى ابتكار كل جديد من تطبيقاتها.
أما تنوع المحتوى العاطفي الذي يتوفر على شبكة المعلومات فهو ينقل المتلقي من حال إلى حال بسرعة ترددات الصور المتناقضة، والتي تنطوي على كل اتجاهات المشاعر من فرح إلى حزن وأسى، أو خوف بل فزع، وبين حب، وكره، وعدوان، وسلام، مما يجعل المرء يصاب بالارتباك، وفوضى المشاعر، والأحاسيس في تداخلها السريع.
ولو رصدنا أيضاً ما تقدمه السينما العالمية بالدرجة الأولى، ومن بعدها التلفزيونات ببرامجها المتنوعة، ووسائل الإعلام المختلفة لوجدنا أن أغلب ذلك يتكئ على منتج هدفه أن يصل إلى العاطفة بالدرجة الأولى بتفعيل، أو تحفيز مستمر لها، وأن يخاطب الشعور، وكل ما يلامس السطح، ولا يصل إلى الجوهر، والمظهر دون المحتوى.
إذاً فالمنافذ كثيرة، وعلى رأسها تلك المواقع الرائجة بشكل كبير لبث فيديوهات قصيرة تعود بالمال، ولو كانت على درجة من السطحية إن لم نقل من تفاهة موضوعاتها، إلا أنها تجذب إليها قدراً لا يستهان به من المشاهدات. ولا تستثنى أيضاً من تلك المنافذ الكتب الرخيصة، والدعايات المثيرة للاهتمام، وفن الرقص، والغناء الذي بات يعتمد على اللوحة البصرية أكثر مما يعتمد على اللحن والكلمات، وكذلك الأزياء الحديثة، والموضة في كل اتجاهاتها، وتفرعاتها، وما يفصل الجسد عن الوعي العقلي بينما هما ليسا منفصلين، والارتباط بينهما أكيد ووثيق، لكن الاتجاه العام الذي اختلت منه المعايير جعل من استخدام الشعور، وإيقاظ الغرائز سوقاً لتجارة رائجة يتزايد الطلب عليها كلما اتسعت دائرتها كعنصر إثارة، وجذب.
فكيف إذاً سيدافع المرء عن نفسه وسط هذه المؤثرات الخارجية التي تقفز من خلال ما هو مرئي، ومسموع، ومكتوب، ليحمي مشاعره، وعواطفه مما يخترقها ليستغلها، ويستهلكها في تلقائيتها دونما فائدة، ويجعل أمر إدارتها والتحكم بها أكثر صعوبة؟.. والحال لا يتوقف عند انفعالات الفرد نفسه، وما يصيبها، بل إنه يتعداه إلى علاقته بالآخرين في ضبط مسارات ردود الأفعال حتى لا تختل تحت ذلك التأثير، وحتى يظل التعامل عقلانياً منسجماً مع الأعراف، والتقاليد المجتمعية لا انفعالياً متهوراً بين أفراد المجتمع الواحد.
تلك الهالة التي تحيط بالعاطفة تصبح أكثر جذباً لأن يدور المرء في أفلاكها، والفضول البشري يدفع إلى رغبة الاكتشاف، بحيث يصبح الانفكاك منها أكثر صعوبة كلما أوغل فيها، ومما قد يشكل انعكاساً سلبياً في مسار العلاقات الاجتماعية، والصحة النفسية.. فأي رسالة بعيدة عن حسن النية تلك التي أصبحت تستقطب إليها جماهيرها لتؤثر، ولو لوقت قصير؟ لكن الوقت القصير هذا يصبح ممتداً أمام كثافة ما هو متوفر على تلك الساحة التي تغري بالمتعة، والمال، والشهرة، وكل ما هو محبب إلى النفس.. وصانعو المحتوى مع محبيهم لا يدركون أنهم جميعاً قد أصبحوا سلعة تُباع، وتُشترى.
وهنا يأتي الدور المؤثر للإعلام، والثقافة، والتعليم، ليوظف كلٌ مادته في ترشيد الخطاب، وتطويره حتى لا تستهلك العاطفة جمهورها فتغيّب وعي المجتمع.. أما خطاب العقل المتوازن مع العاطفة فهو الذي ينهض بالشعوب، وهو الذي يقع في وجدان المتلقي بشكلٍ إيجابي واعٍ ليس من السهل محوه، أو اقتلاعه. أما المزاج العاطفي للجمهور فهو لا يدفع الجهات المعنية بالضرورة إلى إرضائه على حساب منفعته، ونضج وعيه، وتغيير ثقافته.. وحتى لا تنفصل الأجيال الجديدة عن مجتمعاتها بتأثيرات خارجية تلعب على وتر العاطفة فتهزه حتى ينقطع.
(إضاءات) ـ لينـــــا كيـــــــلاني