الثورة أون لاين – رشا سلوم:
بنت الجولان السوري التي هي بنت عم الشمس كما قال عنها الشاعر العربي السوري زكي قنصل ذات يوم: جولان يا بنت عم الشمس، ميسون عيسى بنت هذه الأرض الطيبة التي تنبض في قلب كل سوري، وهي عائدة إلى حضن الوطن مهما طال الزمن، المهندسة ميسون ترسم درباً للعودة يعبّده السوريون بالتضحية والوفاء، وللجولان أرضها ومهوى القلب، تكتب وحبرها الذي عطر الكثير من المجلات والصحف والمواقع يجمع اليوم في إصدار قصصي أنيق وظريف حمل عنوان “خرائط الرجوع” صدر عن دار أكاديميا بدمشق يقع الإصدار في 70 صفحة ضمت أكثر من 15 قصة جميلة تبوح بمكنونات الروح والأمل ودرب العودة الظافر.
وإذا كانت الكاتبة بنت العمل التقني والهندسي لكنها تحمل في شحنات لغتها ألق النبض والقدرة على الالتصاق بالأرض والوطن، وترسم أسلوباً فريداً لها، تستذكر الزمن الجميل فتقول:
لم أكن أتجاوز بعد سنواتي الأربع، يضيق المنزل بشقاوتي، فيُسمح لي بالخروج إلى الحارة لبعض الوقت، و لم يكن في الأمر أي أخطار أو محاذير في دمشق السبعينات.
كان منزلنا عبارة عن غرفتين صغيرتين و شرفة ضيقة، و كل ما أذكر من أثاث ذلك المنزل هو مكتبة مليئة بالكتب وعود وآلة خياطة…
هذه الأشياء الثلاثة، كانت ثروة العائلة، تعلّمنا أن نحترمها ونتعامل معها برفق وحنان، وكل ما عدا ذلك هو بضاعة مخلوفة.
وعلى حافة الشرفة الصغيرة، اعتادت أمي أن تضع إبريق الماء ذا اللون الأزرق الفاتح كلون السماء، بينما كانت تمطر رذاذاً خفيفاً، فتتساقط بعض حبات المطر في الإبريق، و تحت تأثير هذه الصورة البديعة، لا بد لأي كان أن يشرب، ليجرب طعم هذا المزيج الرّباني .. المحلّى بحب العزيز … هكذا كنّا نسمي رذاذ المطر في دمشق …
“حب العزيز ” هو عبارة عن حبّات من اليانسون المغلفة بالسكر … وما زلت إلى الآن تحت تأثير تلك الرشفة، فما وجدت لطعمها مثيلاً في أي مكان .
الحارات الدمشقية ، العابقة برائحة الخبز ، على شرفاتها يتغنج الورد و الياسمين ، بانتظار أن تستيقظ عيون العشاق فتداعب حمرة خدوده وتلتقط ما تساقط من أقماره لتتشارك معها قهوة الصباح…
هذه الظاهرة الجميلة، بأبواب أو بلا أبواب ، سرّ من أسرار أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، دمشق التي حمل نزار قباني عطرها في حقائبه و سحر به العالم .
و”الأخوة” التي تعني كل العطاء هي حبر الحياة، الحياة اليومية.
آخر مرة رآه فيها كانت في المشفى عندما طلبوا منه استلام جثته بعد أن استشهد في معركة ضد الإرهابيين.
أحداث تومض أمام عينيه وتتزاحم الذكريات بعيدة وقريبة، يستعيده صوت الضابط، لقد اقتربوا، ازدادت ضربات قلبه قوة وسرعة، كان العتم قد غطى الطريق السهلية تماماً، ليس في إمكان الناظر أن يرى سوى أشباح تتحرك في الظلام، عددهم كبير بالمقارنة مع مفرزة مكونة من بضعة جنود مسؤولين عن حماية القرية، وكان لا بد من معجزة كي لا يصلوا إلى مأربهم في دخولها، تمركز كل في مكانه وتهيؤوا لمعركة لا تبدو لمصلحتهم.
وسط استغراب الرفقاء نهض الأخ الأكبر بهدوء وتصميم ثم ركض كالنمر باتجاه المسلحين وفجأة أضيىء السهل كمدينة للألعاب النارية وأمام دهشة الرجال المتأهبين للمعركة تحول الرعاع إلى أشلاء، وبدا السهل وكأنه يحاول لفظهم من جديد.
و”الجدة” هي جسر العائلة إلى الحياة منها القوة والحكمة والصبر
كانت تشعر أنها تملك كلّ غنى العالم، فعلى السفح الغربي لهضبة الجولان، يسكن بيتها ذو السقف الخشبي و الحجارة السوداء المائلة إلى الزرقة، و شبّاكها الذي يطلّ على امتداد الأفق من الجنوب اللبناني إلى قرى الجليل الفلسطيني.
إذا حزنت، مالت على كتف شبعا لتكفكف دمعها .. و إن فرحت، تفرح معها القرى المتناثرة على كتف الجليل .. يا لهذه المصافحة الجغرافية !… و يا لهذه الأكتاف !.. ذات الأرض .. ذات الرحم ..ذات الحكاية .. ذات الهم .. و ذات الحلم …
فمن يشرب من جرار الفخار المصنوع في شبعا يضنيه البحث عن نفس طعم الماء الذي ينضح به جبل حرمون.. و من يستمع إلى غناء الرعيان على تلال الجليل.. يجد من الحكمة ما يكفيه لملء جرار الروح لأجيال و أجيال …
أمّا عجولها، و بقراتها المدللّات.. وردة و زهرة و غصن البان ، فلديهم مساحات على مد النظر من البراري العابقة بروائح الطيب……
وفي حضن الكرم ، عندما يتساقط النور من بين العناقيد ، يستيقظ البيت ، على صوت السنونو تلعب وتثمل ، فتمضي نهارها في نظم القصائد حتى مغيب الشمس …
كانت جميلة كشجرة سنديان تنتظر عودة عصفورها .. الذي قالت له مرّة بفطرتها الريفية ، ما يشبه قول الشاعر رسول حمزاتوف في مذكراته عن حياة المرء عندما يُكتب له أن يُولد شاعراً في الحقول: ” الأغنية ضرورة للعصفور ، لكن مهمّة العصفور الأولى ، أن يبني عشّه ، و أن يجد رزقه ، و أن يغذّي صغاره ” ، و لكنّ عصفورها الشاعر غادر البيت، ليفتش عن فرصة تحمله الى حياة أخرى ، أكثر دهشة و أكثر اتساعاً من القرية الوادعة على سفح
التلّ .
خرائط الرجوع مجموعة قصصية مترعة بالحياة والأمل، أكبر من مدونة وأعمق من حبر لأنها مكتوبة بنبض القلب والعودة إلى أرض الجولان وهذا ليس ببعيد.