الثورة أون لاين – إنصاف قلعجي:
لماذا كلّما انزاحَ عتمٌ، عبّأ الروح عتمٌ آخر؟!. ولماذا كلّما لاحَ فجرٌ تتسارعُ العواصفُ لتأخذَنا بعيداً إلى شاشةِ الذاكرة، لنركنَ هناك حيث كانتْ لنا أيامٌ وأيام؟!!
أسئلةٌ، أعادت إلى ذاكرتي “النسرِ في الليلةِ الأخيرة”، وهي قصةٌ كنت قد كتبتُها عام 1994 ضمن مجموعتي القصصية التي تحملُ العنوانَ ذاته. وبعضُ ما جاء فيها:
“كانَ الفضاءُ مسكنهُ والشمسُ جارته والقمرُ رفيقَ ليلِهِ، وكانتْ الحريةُ غذاءَهُ وشرابَهُ.. حاولَ أنْ يجرّ ذاكرتَهُ.. تذكَّر أيامَ تأميمِ قناةِ السويس حينَ كانَ طفلاً طرياً، وحينَ كانتْ طائراتُ الأعداءِ تقصفُ مصر.. تذكَّر حينَ كانَ زجاجُ منزلهِم مطلياً بالأزرقِ النيليّ، وكانتْ الأيامُ سوداء، وخلفَ السوادِ قلوبٌ تتوردُ حينَ كانَ يأتي صوتُهُ: أيّها الأخوةُ المواطنون، إنّ إرادةَ الشعبِ هي من إرادةِ الله.. ويغيبُ الصوتُ، يمدُّ بقايا جناحَيْهِ ليحضنَ الصوت، ويحتفظ به نديّاً في الذاكرة، لكنّهُ يرحلُ بعيداً والزمانُ غير ذاك الزمان.
آهِ يا شوارعَ غرناطة المنسِيّة.. يذكرُ المبادئ التي تعلّمَها في الشارعِ وفي المدرسةِ.. يذكرُ أبجديةَ العروبةِ التي ردّدَها وحفظَها على مقاعدِ الدراسة، وفي المقاهي الشعبية. التي سمعها مراتٍ كثيرة من المذياعِ وهو يحتسي كوبَ العرقسوس، وكانتْ الشوارعُ رطبةً تندى بالأحلامِ المنسكبة.. تذكَّر القوميين الأحرارَ وطبيبَ الفقراءِ الذي كانتْ تصحَبهُ أمُّه لعيادته، وكانَ يشعرُ بالفخرِ حينَ يتناهى لسمْعِهِ، أنّ هذا الطبيب هو أمينُ عام حزب قومي..
كانتْ الصورُ تتوالى سريعاً وتنأى سريعاً، والرجلُ يشيرُ لضيوفهِ أنّ النسرَ بدأ ينكسر.. حاول للمرَّة الألف بعد المائة أنْ يفكَّ الحبلَ عن رجْلِهِ، استدعى واستنجدَ بكلّ شهداءِ الأمّةِ ومناضليها ومفكريها.. وكلُّها كانتْ تنأى بعيداً كما الفضاءُ ينأى، كما الأرضُ تنأى….
حدّق في الليلةِ الأخيرة.. في بقايا الصورِ التي مرّت بذاكرته، أصبحتْ الذاكرةُ مستباحةً أمام ناظريه. حدّق.. غابَ عن قهقهاتِ الحضورِ الذين ظنوا به الظنونَ أو مسّه الجنونُ.. حدّق، كانتْ المدنُ العربيةُ ترحلُ عن عروبتها، تخلعُ كلّ تاريخها.. حدّق، كانَ شرخُ الجرحِ يرتفعُ من قلبِهِ باتجاهِ حلقهِ، بياضُ عينيهِ يتقدُ احمراراً، يشتعلُ رويداً رويداً كما الفانوس، عيناهُ تجحظانِ للخارج، يكتمُ غيظهُ، يكبرُ غيظُهُ عن مساحة صدره، يندفعُ صدرهُ للخارج، ينتفضُ ريشهُ، يصرخُ صرخةً يحملُها الفضاءُ الرحبُ.. إلى البعيد، يرسلُها لمدنٍ لا تزالُ تقاومُ، يدورُ حولَ نفسِهِ في رقصةٍ هستيريةٍ، يلتفُّ الحبلُ حول عنقهِ ويدورُ ويدورُ ويدورُ…”
هذا بعض ما جاء في القصة. نعم، هناك مدن عربية لا تزال تقاوم، وهي التي تحمل فجراً جديداً لهذه الأمة المكسورة، وقد ينهض يوماً النسر من رمادهِ، ليرى كل المتخاذلين وقد سقطوا..
قبل سنوات عديدة، وعندما اتصلت بي أستاذة في مركز اللغات في الجامعة الأردنية، لتخبرني بأن بعض الأساتذة في القسم، اختاروا قصتي” النسر في الليلة الأخيرة” لتدرَّس كمتطلبٍ إجباري لطلبة الجامعة كافة وبكل الأقسام والكليات. أيضاً، عندما جاء اليوم الذي تسلَّمت فيه كتاباً صدر عن الجامعة بعنوان :”مهارات الاتصال باللغة العربية”، وفيه هذه القصة.. عندما حصل ذلك، سررتُ بهذا الاختيار، وخاصة في هذا الزمن الصعب. أيضاً، لأني شعرتُ بأن هناك من لا تزال العروبة الضائعة تسكن وجدانه، و من لا يزال يقرأ عن الذين يريدون للأمة أن تنهض من جديد.
سررتُ وتذكّرت، وسأبقى أتذكر كلّما قرأت أو سُئلت عن “النسر في الليلة الأخيرة”.. سأبقى أتذكر قول الصديق المبدع “ممدوح عدوان” في مقدمته لمجموعتي القصصية هذه:
“هذه امرأة معبَّأة، لعلي أستطيع أن أقول إنها موقوتة. هي تحمل عبوتها في قلبها، ولا أقول متى ستنفجر؟! بل أقول لنفسي: كيف، وهي هكذا، لم تنفجر بعد”..
إذاً، حين تكون الفنون الإبداعية تعبيراً عن وجدان الأمة، فإنها تكون سنداً لكل أشكال المقاومة. أحد الأمثلة التي أذكرها وغيرها الكثير، لوحة الفنان العالمي “بيكاسو” “غيرنيكا” وهي قرية إسبانيّة صغيرة وادعة، خلت من الرجال لأنهم ذهبوا إلى القتال، ولم يبقَ فيها إلّا النساءَ والشيوخَ والأطفال، بعد أن قصفها الألمان والايطاليون جواً بأطنانٍ من القنابل، فدمّروها مع عددٍ هائلٍ من المدنيين، إبان الحرب الأهلية في إسبانيا عام 1937.
لوحة “بيكاسو” هنا، أُنجزت باستخدام الأقلام السوداءِ والحبر والفحم، فعمَّ اللونُ الأسودُ بأحزانه ورماديته، وعبّر عن المرارة التي تعانيها الروح البشريّة، ومقدار ما انعكست هذه المرارة على الروائع التي قاومت وواجهت إلى أن خُلِّدت ونالت شهرة كبيرة، لما جسدته من صورِ أثبتت بلاغة وقوة الفن، في مواجهة الآلة الهدَّامة والهمجية.
كاتبة وأديبة أردنية
5-1-2021
رقم العدد 1027