في عهد الخليفة العباسي المأمون حيث ازدهر العلم والثقافة والفلسفة التقى المأمون عمه عبد الله بن الحسن وقد تقدم به العمر: ما بقي من لذائذك يا أبا علي؟ فأجاب بقي اثنان اللعب مع الحفدة والأسباط والثانية الحديث مع الصم البكم فقال المأمون عرفنا الأولى فماذا عن الثانية ؟ فأجابه إنها قراءة الكتب فهي لا تزعجك بصوت ولا تجسس عليك بسمع ولا تتطلع عليك ببصر ! لعل ما قادني للدفع بهذه الحوارية المعبرة هو اطلاعي على وضع الكتاب والقراءة في منطقتنا العربية وواقع الكتاب فيها، إذ تشير الإحصائيات الصادرة عن مراكز الدراسات والاستطلاع إلى أن نسبة الأمية بين العرب لا تقل عن 20 بالمئة أي أن ثمة 100 مليون أمي، وهو رقم يستدعي التوقف عنده في عصر التكنولوجيا الرقمية والاتصالات والتواصل الاجتماعي والكمبيوتر، لأن الأمية مشكلة اقتصادية واجتماعية وثقافية ووطنية لجهة آثارها ونتائجها وانعكاساتها على الفرد والأسرة والمجتمع وعملية التنمية بشكل خاص، ومع أن تعريف الأمية لم يعد كما كان سابقاً، وهو عدم القدرة على القراءة أو الكتابة بلغة ما وإنما اتسع ليشمل الأمية الثقافية والأمية الإلكترونية وغيرهما، فكيف سيتحرك الرقم والنسبة المشار إليها لو أدخلنا التعريف الواسع لها ؟ ولعل الأخطر من ذلك أن الدراسة المشار إليها تبين أن حصة الفرد العربي من القراءة لا تزيد على ست دقائق في اليوم وأن الدول العربية هي من أقل دول العالم طباعة وإصداراً للكتب، حيث نصيب كل مليون مواطن عربي أقل من ثلاثين كتاباً وتتسع الفجوة الرقمية أكثر عند الحديث عن اقتناء الحاسوب، فالمتوسط العالمي 14 حاسوباً لكل 1000 شخص، بينما هي 8 حواسيب في الدول العربية كمنظومة كاملة مع فروق كبيرة بين الدول العربية، وتشير الدراسة أيضاً أن عشر العلماء العرب يغادرون بلدانهم إلى دول أخرى بحثاً عن فرص عمل وبيئة أفضل، في حين أنها بحاجة ماسة لاختصاصاتهم وعملهم وخبرتهم وفي تصنيف عالمي سنوي تجريه جامعة شنغهاي الصينية لأفضل 500 جامعة في العالم ووفق معايير شفافة ومعتمدة، تشير النتائج إلى أنه ضمن تلك الحزمة الواسعة لا توجد سوى جامعتين عربيتين، وبوضع تلك الأرقام في مخبر التحليل المعرفي للوقوف على أسباب ذلك يمكننا الوقوف على بعض أسباب ذلك ومنها آفة الفقر وما تستجره من أمراض اجتماعيه وأخلاقية وسلوكية واقتصادية تنعكس سلباً على الفرد والمجتمع، حيث أصبح أولويات الفرد والأسرة تأمين أولويات العيش والسكن، واذا وضعنا ذلك جانباً نرى أن ثمة عوامل أخرى تسهم في ذلك منها ارتفاع أسعار الكتب مقارنة بدخول المواطنين وزيادة تكاليف الطباعة وضعف آليات التوزيع وطرائق العرض ونوعية ومضامين الكتب المطبوعة ومدى تلبيتها لرغبات القراء وحاجاتهم، وضعف ثقافة القراءة عند البعض لأسباب عديدة، إضافة إلى آليات الرقابة على الطباعة والنشر وحرية التعبير.
إن ظاهرة الأمية بكافة أشكالها تحتاج إلى استراتيجيات وطنية جادة لمعالجتها والحد منها وصولاً للقضاء عليها، لأنها آفة خطيرة بتداعياتها على المجتمع، بل إنها من أبرز معوقات عملية التنمية الشاملة والمستدامة وتشكل مع ظاهرة الفقر البيئة المناسبة لتفريخ ظاهرة التطرف والإرهاب وتدمير منظومة القيم الاجتماعية، من هنا تأتي أهمية صياغة استراتيجيات مديدة وحوكمة رشيدة تساهم فيها بشكل أساسي المؤسسات التربوية. الثقافية الاقتصادية وقوى المجتمع المدني، حيث التركيز في المنهاج التربوي على الجانب التجريبي والعقلاني في صياغة المناهج والابتعاد عن التعليم البنكي التخزيني للمعلومات، وإدخال مادة الفلسفة في المناهج في المراحل المبكرة من التعليم، وإعادة الاعتبار للمكتبة المدرسية وحصص المطالعة وقراءات الصغار للكبار ودعم المكتبات المدرسية بأفضل الكتب العلمية والفن والأدب الرفيع والراقي واللغة الغربية الفصيحة وكل ما في تراثنا من شعر وأدب ورواية وقصة ومسرح من أعمال خالدة، إضافة للأدب العالمي والإنساني المترجم للعربية وإلى جانب وزارة التربية والتعليم العالي يبرز دور المؤسسات الإعلامية ووزارة الثقافة ومؤسساتهما في هذا المجال وصولاً لتكريس ثقافة القراءة الجادة المحررة للعقول من كل أشكال التخلف والجهل والأمية، ما يساهم في التأسيس النوعي لمجتمعات جديدة تقرأ وتنتج وتبدع ولاسيما أننا أمة اقرأ.
إضاءات – د . خلف المفتاح