الملحق الثقافي:أمجد سيجري:
تتميَّز منطقتنا بكونها أقدم مركز حضاري بشري في العالم، من “تل براك” في الجزيرة السورية شمالاً، حتى “أورك” في العراق جنوباً، ولا يقتصر هذا التواجد على بناء المدن والمرفقات الخدمية، بل يتعدَّاه إلى إنجازاتٍ حضارية تُحسب لها وأهمها، بداية التدوين والكتابة في “سومر” جنوب “العراق” اليوم، عبر الكتابة المسمارية المقطعية، ومن خلال الأبجدية الأولى في العالم التي كانت في سيناء الكنعانية، وأوغاريت في سورية اليوم.
هذا الكمُّ الحضاري الذي تمتعت به تلك المنطقة، قدّم وبالإضافة إلى اختراع الكتابة والأبجدية، الإنجازات البشرية في المجال التربوي والتعليمي، وهي المدارس أو البيوت التعليمية.
تستند معرفتنا حول هذه المدارس، على عددٍ من الاكتشافات الأثرية في مناطق عدة في سورية والعراق، كـ “نيبور” و”أور” و”كيش”، وصولاً إلى “إيبلا”. لكن، أهم هذه المناطق وأغناها، المكتشفات الأثرية التي وجدت في “نيبور”.
كان اسمها “بيت الكتابة” أو “بيت الألواح”، وقد وردت في التدوينات السومرية باللفظ إ- دُبَّا e₂ -dub-ba-a ، فاللفظ: إe₂ – يعني بيت، أمَّا: DUB-ba-a دُبَّا، فتحوم الاحتمالات بين “الكتابة” أو”الألواح الطينية” التي يُكتب عليها، لكن الكلمة الأكادية المناظرة لهذه الكلمة bīt ṭuppi بيت – طوبِ، ترجح احتمال أنه “بيت الطوب” أي “بيت الألواح”.
عموماً، لفظ “إ- دُبَّا” يقدم لنا احتمالاً قوياً لأصل كلمة “الأدب” التي تعبر عن أرقى ومختلف الأساليب الكتابية، في تدوين كافة أشكال ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ، الخاصة بعواطف ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺃﻓﻜﺎﺭﻩ وآرائه وتطلعاته .
يعبِّر أيضاً، عن المؤسسة الأولى في العالم، والتي نطلق عليها اليوم اسم “مدرسة”، وهي التي درّبت وعلَّمت الكتبة الشباب في بلاد ما بين النهرين القديمة، خلال أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد.
لكن، معظم المعلومات المعروفة عن هذه المؤسَّسة، أتت إلينا من النصوص المسمارية التي يرجع تاريخها إلى الفترة البابلية القديمة، نحو 2000-1600 قبل الميلاد.
– اكتشفت الحفريات الأثرية، الآلاف من الألواح التي تحوي كمَّاً كبيراً من النصوص المدرسية، فقد تم العثور على هذه النصوص في المباني الداخلية في مؤسسة إ- دُبَّا eduba التي كانت تقع أحياناً، بجوار بعضها بعضاً في مكان واحد.
– كانت وظيفة إ- دُبَّا eduba ذات شقين:
1- تدريب الكاتب، وتنمية مهاراته الكتابية، كي يزاول مهنة الكتابة.
2- تجهيزه لتسجيل الشؤون الحياتية اليومية في المدينة، بالإضافة إلى دورها في الحفاظ على التراث الثقافي الكبير في البلاد.
– نميز في هذه المؤسسة مرحلتين من التعليم:
1- المرحلة المبكرة: فيها يتمُّ تعريف الطلاب بنظام الكتابة المسمارية، إضافة إلى المفردات السومرية والقواعد، وهيكلة وصياغة الجملة.
في هذه المرحلة، يشرف المعلم مباشرة على الطلاب، ويراقب أداءهم، ويقدم ملاحظاته.
2- المرحلة المتقدمة: فيها يتمتَّع الطلاب باستقلالية، عبر نسخ النصوص الأدبية المتقدمة، ذلك أنه لم يكن هناك معلم مشرف.
هذه المرحلة هي مرحلة التخصُّص، فكلّ كاتب يتخصص في مجالٍ معين، كالشؤون الإدارية المتعلقة بالمسائل القانونية، وإدارة القصر، أو يتخصص في النصوص الأدبية المتعلقة بالتدوينات الدينية الخاصة بالمعبد، وما إلى ذلك.
المحتمل، أن بداية تعليم الطلاب في eduba كانت منذ صغرهم، وكانوا في المقام الأول من الذكور، وهذا لا يعني عدم وجود كَتبة إناث، فالتاريخ في مجتمع بلاد ما بين النهرين القديم، يشهد بوجود كَتبةٍ إناث، ومنهم شاعرات، كأول شاعرة في العالم، وهي “إنخيدوانا” ابنة سرجون الأكادي.
نقلت لنا التدوينات الأثرية عن مؤسسة إ- دُبَّا eduba صورة حية عن الحياة اليومية للطلاب، فهي تحكي على سبيل المثال، عن قيامهم بمغادرة منازلهم صباحاً، والذهاب إلى المدرسة، وفيها تبدأ دروسهم التي تضمن قراءة النصوص، والكتابة، وإنشاء ألواح طينية تحوي نصوصاً مسمارية جديدة.
كما تظهر التدوينات، وجود عقوبات في هذه المؤسسة، وعلى سوء السلوك، والتحدث خلال الدروس. أيضاً، الخروج من هذه الدروس في وقت غير مناسب، أو حتى لدى قيام الطالب بالكتابة بشكل سيىء.. الخ
عن هذه العقوبات، تروي إحدى التدوينات، بأن أحد الطلاب كان قد تعرّض للضرب، ما لا يقلُّ عن سبعِ مرات في يوم واحد.
تروي أيضاً، بأنهم كانوا وفي نهاية اليوم المدرسي، يعودون إلى منازلهم، فيروون لآبائهم وأمهاتهم أحداث يومهم، ويقرؤون لهم واجباتهم المدرسية.
التاريخ: الثلاثاء2-3-2021
رقم العدد :1035