الثورة أون لاين -علي الأحمد:
يُصر بعض أصحاب شركات الانتاج الفني والإعلام الخاص، على أن مايقدمونه للمتلقي العربي المسكين، هو فن وابداع، قياساً لمايحققونه من أرباح طائلة من وراء هذا النتاج الفني البائس، الذي يلعب على وتر إثارة وإستثارة الغرائز المنحطة المريضة، خاصة لدى جيل الفتيان الشباب، متناسين أن هذا النجاح الجماهيري فرضته عوامل عديدة ، وهو على كل حال، نجاح عابر وزائل لايعني شيئاً في تاريخ ومسار الابداع المعاصر ، قدر ماهو علامة على انعدام قيمة التذوق الفني الخلاق، وغياب التربية الجمالية عن عالم وحياة هذا المتلقي، المحاصر مع كل أسف، بثقافة الإلهاء أينما حل وارتحل.
إذاً، القضية ليست بحجم الجمهور الذي “عاوز كده” قدر ماهي قضية تربية وتعود على فنٍ راقٍ وخلاّق، يقرأ دواخل النفس البشرية، ويعبر عن آمال وطموحات هذا المتلقي، وفي غياب أو تغييب هذا الفن الراقي، لابد وأن يحتل المهرجون الأدعياء المكان والمكانة، ويفرضون حضورهم السمج، على الجميع دون أن يردعهم أحد أو يوقفهم عند حدهم أحد، وهو ماجعلهم يصدقون بالفعل أنهم نجوم وأنهم مبدعون لأبعد الحدود ، وأننا نحن جمهورهم الكريم. هي مأساة وتراجيديا ملحمية، مايحدث في سوق الانتاج الفني اليوم، حيث يلعب المال الفاسد ويتلاعب بالعقول ويقولب الذائقة على هواه وضميره التجاري، حيث يتم تفريخ هؤلاء النجوم بشكل فيه الكثير من الخفة والاستسهال، بعيداً عن العلم والمعرفة ناهيك عن الأمية الفنية والثقافية التي يتمتع بها هؤلاء وهذا لوحده كفيل بأن يجعل المشهد الموسيقي أقرب الى مفهوم السيرك ودوره في التسلية ومزجاة الوقت، ومن باب تعذيب النفس نشاهد بين الحين والآخر بعض من إبداع هؤلاء من الذين أدركتهم مهنة الغناء بمحض الصدف أو بالمال وأشياء أخرى معلومة، يتم استضافتهم عبر محطات ودكاكين الفضاء والإعلام الخاص التي تناسلت بدورها الى درجة مرعبة، حيث يدلون بآراء فنية أقرب ماتكون الى الجهل الحقيقي والمهزلة من دون ان يرف لهم جفن، أو وخز ضمير، ولانريد أن نذكر أمثلة على هذا التردي في السوية الفنية، لأن هذه الحالة باتت معممة ومنتشرة بشكل يدعو الى الأسى، لفنٍ عظيم، كان لايقاربه إلا كل ذو حظ كبير من الموهبة والعلم والمعرفة والثقافة الموسوعية، ولهذا تحديداً، عاش الفن القديم وبقي الى يومنا هذا، ملاذا للمتلقي العربي ومؤنس وحدته ومعينه الجمالي الذي لاينضب، ليس لأنه قديم و” أنتيكا ” تجذب السياح كما يقال، بل لأنه فن مكتمل العناصر الابداعية يحمل هماً وطنياً وانسانيا، قبل أن يكون وسيلة للإمتاع والمؤانسة، شعراً ولحناً وصوتاً، وذائقة تقدر الجمال والابداع والفن النظيف الذي لاتشوبه شائبة، ومن هنا نرى حجم الخراب والكارثة التي حلت بهذا الفن، خاصة في هذه الألفية الثالثة العتيدة، حيث تصعد وتكرس ثقافة الإلهاء التي تهيمن على كامل المشهد الفني على حساب الثقافة التنويرية وبناء وارتقاء الإنسان جمالياً، في مؤامرة موصوفة على الفن الأصيل، وأحداث قطيعة معرفية ووجدانية مع رموزه ورمزيته كأحد روافد الابداع في مسير الثقافة العربية، وهذا إن دل فإنه يدل وبشكل قاطع، على غربة حقيقية يعيشها الموسيقي العربي اليوم، حيث لامرجعية ثقافية لديه تمنحه القدرة على تكوين شخصيته وحضوره الفاعل والمثمر عبر تأكيد الذات والهوية، وليس عبر التقليد واستنساخ الآخر الذي غالباً مايكون هنا، التجاري الرخيص، وبالتالي انعدام الأفق في حجز موقع ومكانة له في موسبقى وثقافات العالم، كمبدع عربي يمتلك كل الأدوات لمقارعة أقرانه في موسيقات الشعوب، لا أن يكون تابعاً ذليلاً، يتصاغر ويذوي في حضرة هذا الآخر بشكل فيه الكثير من الدونية وتقزيم الذات والذوبان في نسقه الموسيقي المغاير.