بين المرأة والوطن.. أبجديَّةٌ من ياسمين

 

الملحق الثقافي:‏‎الهام سلطان:

“كلَّما غنيتُ باسمِ امرأةٍ، أسقطوا قوميَّتي عنّي، وقالوا: كيف لا تكتب شعراً للوطن؟.. وهل المرأةُ شيءٌ آخرَ غير الوطن”؟!!..
نزار قباني
الوطنُ يرتِّل في داخلنا البهاء السرمدي، ويجدلُ ضفائر النُّور على هاماتنا. يجعلنا أنقياء كالندى، وبين ضفتيّ الأبدية رسائل عشق للأرضِ، للسماء، للشجر، للورد، للحارة، لرائحة البخور والصندل. تتجسد ظلاله في كلِّ شيءٍ، حتى في النبض، والدم الذي يجري في عروقنا، وصوتُ القصيدة التي هي ذاكرتنا وصوتنا:
/يا سـريري.. ويا شراشف أمي/ يا عصافير.. يا شذا.. يا غصون/ يا زورايب حـارتي خبِّئيني/ بين جفنيكِ فالزمان ضنين/.
نعم هو الوطن، وقد عبرَّ عنه شاعر الياسمين الدمشقي “نزار قباني”، في غالبية قصائده، حيث رسم بالكلماتِ شكل الوطن، ولوَّنه بالضياء، وجعل يماماته تحلِّق خلف أسوار المدى، ورسم المرأة على هاماته عرائش ياسمين.
إنّي أُحبُّكِ كي أبقى على صلةٍ/ باللهِ، بالأرضِ، بالتاريخِ، بالزمنِ/ بالماءِ، بالزرعِ، بالأطفالِ إن ضحكوا/ بالخبزِ، بالبحر، بالأصدافِ، بالسُّفنِ/ بنجمةِ الليلِ، تُهديني أساورها/ بالشعْر أسكنهُ، والجرحُ يسكُنني/ أنتِ البلادُ التي تُعطي هويّتها/ مَن لا يُحبّك.. يبقى دونما وطَن/.
كانت دمشق، وطنه الذي نثر فوق ثراه الطاهر، نور عينيه.. كانت أيضاً، الحبيبة التي وشمت على شغاف قلبه، فأبدعها قصيدة خلَّد فيها نساء العالم ترانيم حبٍّ.
/فرشتُ فوق ثراكِ الطاهـر الهدبا/ فيا دمشـق… لماذا نبـدأ العتبا؟/ حبيبتي أنـت.. فاستلقي كأغنيةٍ/ على ذراعيَّ، ولا تستوضحي السَّببا/ أنت النساءُ جميعاً.. ما من امرأةٍ/ أحببتُ بعدكِ.. إلا خِلتُها كَـذبا/.
ويبقى الوطن بوح وجدانه، ونبض روحه، فبعد غربته عنه حاملاً في شرايينه حنين وشغف الدنيا، عاد إليه راكعاً تحت ظلاله، ليرتشف من طهر ترابه ترياق الحياة.
/آه يا شام.. كيف أشرحُ ما بي/ وأنا فيكِ دائماً مسكون/ يا دمشق التي تفشَّى شذاها/ تحت جلدي كأنَّه الزيزفون/ قادمٌ من مدائنِ الريح وحدي/ فاحتضنِّي كالطفل، يا قاسيون/ أهي مجنونةٌ بشوقي إليها/ هذه الشَّام أم أنا المجنون؟/.
هكذا ينشد دمشق، وهو يكتب صفحات انتمائه بلهيب أنفاسه، وبأحرفٍ مجدولةٍ من بيارات عطرها..عطرُ مدينة حبيبةٍ، كتبها الله بالنورِ الساطع، والشاعر بضوءِ القمر، ووهجِ الشمس. كتبها قصيدة النار والورد:
/كتب الله أن تكوني دمشق/ بكِ يبدأ وينتهي التكويـن/ علِّمينا فقه العروبة يا شام/ فأنت البيان والتبيين/ وطني، يا قصيدة النار والورد/ تغنَّـت بما صنعتَ القـرون/ اركبي الشمس يا دمشق حصان/ ولك الله حافظ وأميـن/.
دمشق الجريحة نوارة عشقه، والتي أدمتها سياط الغدر. يرنو إليها بعينِ العاشق الذي يراها وحيدة تواجه أعداء الحياة، ولا صديق أو شقيق يساندها، تنزفُ روحه حزناً عليها، فيطلقُ قصيدته تخاطبها:
/دمشقُ يا كَنزَ أحلامي ومَروَحتي/ أشكو العُروبَةَ أم أشكو لَكِ العَرَبا/ أدمَت سياطَ حُزيران ظهورهُمُ/ فأدمّنوها وباسوا كَفّ من ضَرَبا/ وطالعوا كتبَ التاريخِ.. واقتنعوا/ متى البنادقُ كانت تسكنُ الكتبا؟/.
وقف على مسرح الأحداث، وأمامه تساؤلات كثيرة من دون إجابات، ليصرخ بأعلى صوته باحثاً عن أمل، وعن ضوء في نهاية النفق. يجده أخيراً، في زهور الوطن، في أطفاله الذين هم بذور مستقبله، وسنابل ضوئه. يحمِّلهم رسالة الفجر الجديد، راسماً في كفِّيهم بيارق النصر:
/نريدُ جيلاً غاضباً/ نريدُ جيلاً يفلحُ الآفاقْ/ وينكشُ التاريخَ من جذورهِ/ وينكشُ الفكرَ من الأعماقْ/ نريدُ جيلاً قادماً/ مختلفَ الملامحْ/ لا يغفرُ الأخطاءَ/ لا يسامحْ/ لا ينحني/ لا يعرفُ النفاقْ/.
باختصار.. هو صوت وقصيدة وألحان شاعرٍ، ترعرع على أبجدية الياسمين، وفي دار أشبه بقارورة عطرٍ، تعتّقت فيها كلّ أنواع الزهور التي في حديقته.
في هذا المكان الفردوسي، كانت صرخته الأولى في ٢١ آذار عام 1923 في مدينة الفيحاء، ولعائلة أدبية تجارية، فوالده المناضل “توفيق قباني”، والكاتب والمسرحي “أبو خليل القباني” أحد أقاربه.
كلّ هذا يجعلنا نقول قوله:
“هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطرٍ؟.. بيتنا كان تلك القارورة، إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيهٍ بليغ، ولكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر، وإنما أظلم دارنا، والذين سكنوا دمشق، وتغلغلوا في حاراتها وزواريبها الضيقة، يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها، من حيث لا ينتظرون”.
هذا المكان الساحر الذي تنفّس من هوائه النقي والشهي، هو ما جعله يعيش مسكوناً به، ويوصي بأن يكفّن بعطره.
يوصي بذلك، فيكون له ما أوصى به، بعد أن سلّم الروح في لندن، وفي الثلاثين من أبريل عام 1998. أخيراً يعود إلى دمشق ولكن، كجثمان محمول بالطائرة، ومشيَّعاً بكلماته المؤثّرة:
“أدفن في دمشق، الرحم التي علمتني الشعر والإبداع، وأهدتني أبجدية الياسمين”.

التاريخ: الثلاثاء23-3-2021

رقم العدد :1038

 

آخر الأخبار
"تجارة ريف دمشق" تسعى لتعزيز تنافسية قطاع الأدوات الكهربائية آليات تسجيل وشروط قبول محدّثة في امتحانات الشهادة الثانوية العامة  سوريا توقّع مذكرة تفاهم مع "اللجنة الدولية" في لاهاي  إجراء غير مسبوق.. "القرض الحسن" مشروع حكومي لدعم وتمويل زراعة القمح ملتقى سوري أردني لتكنولوجيا المعلومات في دمشق الوزير المصطفى يبحث مع السفير السعودي تطوير التعاون الإعلامي اجتماع سوري أردني لبناني مرتقب في عمّان لبحث الربط الكهربائي القطع الجائر للأشجار.. نزيف بيئي يهدد التوازن الطبيعي سوريا على طريق النمو.. مؤشرات واضحة للتعافي الاقتصادي العلاقات السورية – الصينية.. من حرير القوافل إلى دبلوماسية الإعمار بين الرواية الرسمية والسرديات المضللة.. قراءة في زيارة الوزير الشيباني إلى الصين حملات مستمرة لإزالة البسطات في شوارع حلب وفد روسي تركي سوري في الجنوب.. خطوة نحو استقرار حدودي وسحب الذرائع من تل أبيب مدرسة أبي بكر الرازي بحلب تعود لتصنع المستقبل بلا ترخيص .. ضبط 3 صيدليات مخالفة بالقنيطرة المعارض.. جسر لجذب الاستثمارات الأجنبية ومنصة لترويج المنتج الوطني المضادات الحيوية ومخاطر الاستخدام العشوائي لها انطلاقة جديدة لمرفأ طرطوس.. موانئ دبي العالمية تبدأ التشغيل سوريا والتعافي السياسي.. كيف يرسم الرئيس الشرع ملامح السياسة السورية الجديدة؟ هل تسهم في تحسين الإنتاجية..؟ 75 مليون دولار "قروض حسنة" لدعم مزارعي القمح