الثورة أون لاين – منال السماك:
هبطت كالريشة على قارعة الرصيف، كانت سيارة تقلهن من منطقة الغوطة إلى جرمانا، على ما يبدو اتفقن على تقاسم أجرة النقل تخفيفاً لغلاء المواصلات، كانت آخرهن حسب مسافة فاصلة للرزق متفق عليها، كاتفاقهن على تسعيرة اليوم لتفادي المضاربة بينهن.
امرأة ذات الخمسين عاماً بملامح تتخطى الستين أو أكثر، فتجاعيد وجهها تروي بشكل فاضح قصة شقاء طارئ، و ترسم على صفحة خدها كماً لابأس به من صفعات الزمن.. كانت تخفي خذلان الأيام بستائر سميكة تحيكها شفاه متشققة و بقايا أسنان متهالكة و ابتسامة ساخرة لا مبالية.. كل وعاء تجذبه من سيارة متوقفة على باب رزقها يزن خمسة عشر كيلوغراماً أو أكثر، تنوعت بين لبن مصفى و جبن و قريشة و شمندور، فبنيتها الجسدية اختزنت خيراً و قوة من زمن عز غدرت به الأيام، لتلقيها على رصيف تبيع ما تدأب على صنعه بعد جبر من الله و نفاد بضاعتها.
تقول أم سليمان: لا مفر من الشقاء على زاويتي التي حجزتها منذ سنوات بعد مرض زوجي وملازمته للفراش و انصراف الأبناء لخدمتهم العسكرية، لقد بت المعيلة الوحيدة لعائلتي وسط غلاء فاحش لا يرحم متراخيات و مستكينات في البيت، كان قراري إنقاذ عائلتي من الغرق في الفقر و الاستسلام إما للجوع أو مد يد الحاجة و التسول، الجلوس على الرصيف ليس نزهة لإمرأة في مثل عمري، و حمل هذه الأوعية الملأى بالبضاعة لا تعد رياضة مثالية لجسدي المنهك بوجع المفاصل، و لكن لم أجد مصدراً للرزق غيره كما لا أتقن سوى هذا العمل، الذي لا ينتهي بمجرد بيع البضاعة، بل علي الذهاب لتسوق الحليب و إعداد اللبن و تصفيته وصناعة الجبن، بينما الأعمال المنزلية تقوم بها ابنتي لأن يداً واحدة لا تصفق، وأنهت حديثها المتفائل بأن عملها يدر على عائلتها ربحاً لا بأس به يصونها من الجوع و لا يحرمها من شراء اللحم و الفروج لعائلتها على حد تعبيرها “بدنا ناكل”.
تجلس على مقربة منها عبير ذات الخمسة عشر عاماً، بين الفينة و الأخرى يتفقدها أخوها الشاب الذي يبيع بعض الحشائش، رغم صغر سنها إلا أنها حسنة التصرف و بارعة في الحساب، تقفز بخفة إلى بسطة مجاورة لتزن البضاعة لأنها لا تملك ميزاناً.. تقول: لقد تركت المدرسة لأساعد أخي في مصروف البيت، فوالدي متوفى و نحن نسكن في بيت مستأجر، لم أكن أرغب بترك المدرسة و لكن ظروفنا المادية صعبة، و أمي مريضة و هي بحاجة للكثير من الأدوية، أتمنى العودة للمدرسة في حال تحسنت الظروف.
تستيقظ أم رائد منذ الثالثة صباحاً لتذهب إلى سوق قريب من منزلها الكائن في الغوطة لتشتري البقدونس و السبانخ و بعض الحشائش ثم تأتي بها إلى جرمانا برفقة بعض النسوة، تقول بحسرة: لم أتخيل بيوم من الأيام أن أجلس كبائعة رصيف و لكن الغلاء و وفاة زوجي لم يتركا لي الخيار، من هذه ” البسطة ” اصرف على بيتي وأؤمن نفقات مدرسة ابنتي، و لا أحتاج أحداً و لكن الأمر متعب سواء بالشتاء أم بالصيف، و لكنه أفضل من تسول الآخرين و إراقة ماء الوجه.
من عربين إلى البزورية تحمل أم محمد أكياس الجوز و الزبيب، رغم كبر سنها و لكنها تبدو ذات جلد و عزيمة، فعلى حد قولها من لا يعمل لا يأكل، ما تجنيه من أرضها من جوز تجففه و تكسره، و كذلك تجفف العنب تجهيزاً للبيع وتأمين دخل يساعد أسرتها في تأمين متطلباتهم وسط غلاء لا يرحم.
هن نساء مناضلات في ساحة الحياة بمشاريع تجارة متواضعة، سلاحهن عزيمة و إصرار على العمل الشريف لحفظ ماء الوجه، بعملهن الشاق رسمن لوحة لنساء مكافحات زادهن خوض معركة البقاء في زمن الغلاء شرفاً و فخراً، فكن معيلات لا مستكينات يتوسلن عطايا المارة و فتات موائد المحسنين، في ايام عجاف لم يستسلمن للشكوى و نسج حكايات عوز و ألم و يأس، و لم يرضين لأنفسهن ان يكن بطلات سلبيات لقصة تاء كسرتها حرب و جرتها موجات غلاء، ففي كل زاوية هناك قصة بطولة لإمراة سورية كانت فاعلة ومشرفة.