الحب متأصل في البشر منذ بدء الخليقة.. وله أحوال، وأطوار، وقد تكون أحياناً أهوالاً.. ينتقل بها المحب من حال إلى حال.. فإما أن يتقدم في حاله، أو أنه يتراجع إلى الوراء خطوات إذا ما اكتشف غير الذي كان في الخيال.. إلا أنه الحب في نهاية المطاف.. ذلك الطائر البريء الذي يخفق في جنبات القلب، والروح.. وهو أيضاً قطرات من حلم الشاعر العظيم (شكسبير) في ليلة صيف عندما لا يعود المحب يرى نواقص حبيبه، وعيوبه، بل يظل منجذباً إليه في كل الأوقات.. وهو رمية لا تخطئ هدفها من سهم (كيوبيد) ملاك الحب في الأسطورة الإغريقية.. بينما المشاعر تنمو كما أزهار على ضفة ماء.. إنها تلك المشاعر التي تخبرنا بأننا نستحق أن يحبنا أحد ما.. وأن نحبه بالتالي حتى ولو غاب صوت العقل ليبقى نبض القلب يُسمع دقاته المتسارعة عند أي خاطر لطيف الحبيب الذي لا نختاره بإرادتنا، وإنما سهم الحب هو الذي يختاره لنا.. ذلك السهم الذهبي الذي لم ينج منه حتى (كيوبيد) نفسه عندما جرحه سهمه عن غير قصد ليجد أنه وقع في حب (بسيشه).
إنه الحب الذي يأخذ دوراً كبيراً في حياة البشر، وبناءً عليه قد تُتخذ قرارات، وتُلغى أخرى.. والمحب يعترف أنه لا يستطيع أن يرى عيوب محبوبه، أو نواقصه، لأنه ببساطه يحبه، ولا يستطيع التخلي عنه، أو العيش بدونه.. فليكن ما يكون إذاً، ليس مهماً.. المهم أن حالة استثنائية يعيشها المرء، ويتنفس هواءها بسعادة تفوق غيرها من السعادات. ومَنْ لم يتعرف إلى الحب يكون قد فقد انسجامه مع الكون، ومع الآخرين أيضا في رحلة الحياة.
والأدب يحفل بأنواع، وأشكال من سير الحب في قصصه، ورواياته، والأدب العربي على وجه الخصوص قد أفرد مساحات واسعة من عباراته، وأشعاره لحالات الحب على اختلاف درجاتها، ومسمياتها، والتي منها الحب العذري ذلك الذي لا يقف في وجهه شيء.. لكن نمطاً جديداً دخل بسرعة إلى العلاقات الإنسانية تختصره عبارة (الحب عن بُعد) ذلك بعد أن غزت الوسائط الحديثة حياة الناس حتى وصلت إلى مشاعرهم، وعلاقاتهم العاطفية.. ولو أنه تحقق فيما مضى بين (جبران خليل جبران)، والشاعرة (مي زيادة) التي التقت به في مقام الشعر، وهما يتبادلان رسائل الشوق على مدى عقدين من الزمن دون أن يلتقيا.. والمسافة تُعد بألوف الأميال التي تفصل بين أميركا حيث (جبران)، والقاهرة حيث (مي).. إلا أن تلك الأميال من المسافات لم تستطع أن تُخفت وهج العاطفة التي اشتعلت بينهما لتترك بالتالي آثارها في تجربتهما الأدبية.. وكم كانت السعادة ستغمرهما لو كانا في زمننا فتسعفهما وسائلنا الحديثة بلقاء ولو هو افتراضي، فيرى أحدهما الآخر عبر نافذة الكاميرا.
والحب يبدأ من تقبّل الذات، وحبها أولاً ليصل إلى ذات أخرى، فمَنْ لا يحب نفسه لا يستطيع أن يحب غيره.. ومَنْ يفقد القدرة على الحب يكون قد فقد القدرة على التجدد مع الحياة كورقة شجرة يابسة أسقطتها رياح الخريف.. أما الكتّاب، والشعراء، فقد كانوا، وما زالوا هم الأقرب إلى حالة الحب تلك التي ألهمت روائع الآثار الأدبية العالمية.. فهل يمكن لنا أن ننسى (مارغريت ميتشل) في رواية (ذهب مع الريح)، أو (آنا كارنينا) للأديب الروسي الكبير (ليو تولستوي)، أو (الحب في زمن الكوليرا) لماركيز، وغيرها من الروائع التي خلّدت قصص العاطفة؟
وسواء أكان الحب عن بُعد، أو عن قرب، أو في صفحات خالدات وثّقت لأحداثه، ومساراته، ننسجم معها فنصدّقها، ونتماهى مع وجوه أبطالها وكأنهم نحن، فإنه يبقى غيمة بيضاء نستعذب النظر إليها، أو شجرة وارفة خضراء نستظل بظلها، أو نبعاً صافياً لا نشبع من أن نشرب منه حتى ترتوي الروح.
فهل بعد ذلك تكفي كلمة الحب لاستمراره؟ أم أنها المبادرة النقية التي يؤكدها التصرف بالسلوك، والمعاملة، حتى ولو غابت الكلمة التي تفصح عنه، واحتفظ بها صاحبها؟.. لا بل إنها لغة العاطفة التي يثبتها الفعل قبل أن تؤكدها الكلمة، ونحن نخط في دفتره كل يوم صفحة جديدة تلوّن الحياة بألوان قوس قزح، وتجمع إليها كل أطياف اللون.. والفشل فيه مرة أو أكثر لا يعني ألا يعيد المرء الوقوع فيه أكثر من مرة.
“إضاءات” ـ لينـــــا كيــــــــلاني