الثورة أون لاين:
ثمة قناعة لدي بأن نظرية البيئة و أثرها على الكائن خير دلالة على مسيرة هذا الكائن و في هذا تأكيد آخر على امكانية صناعة الانسان (و لتصنع على عيني)
هي أسئلة كبيرة يبدأ كل انسان بولوجها حين تبدأ بواكير الوعي بالتفتح أولها عن لماذية هذه الحياة و ملامح وجوده الانساني الواقع …
كل هذا ينطبق على جان جينيه صاحب الجملة المشهورة : كلما كبر ذنبي في عيونكم صارت حريتي أكبر .
منذ أن وعى ما حوله و تكوينه السايكلوجي يبحث عن الحقيقة و للأسف كم كانت مؤلمة اذا بادل العالم رفضه هذا العالم .
ولد جان جينيه في التاسع عشر من شهر كانون الأول 1910 ولد تحت وصاية المؤسسة العامة لرعاية العطاء و لقب جينيه نسبة الى أمه غابريل جينيه بعدها أرسل الى منظمة مورفان ليبقى في عهدة عائلة فلاحية دفع لها المال لتنفق عليه .
كانت مرحلة طفولته حرجة للغاية غلب عليها طابع التأمل و الغربة الروحية و عدم الاحساس بالاستقرار مرد ذلك قدومه الى الدنيا بشكل غير شرعي و يفسر جان بول سارتر هذا بأن جينيه كان يعيش في مجتمع ريفي تعتمد قيمه على ملكية الأرض و الارث الشرعي و كردة فعل على وضعه الوجودي هذا لجأ الى السرقة و الانحراف .
و من الجدير بالذكر فرغم أن المنظومة الأخلاقية للمجتمع تنبذ سلوكياته هذه الا أن ذلك لم يجعله يدرك فظاعتها بل على العكس تشبت بها أكثر و خاصة أثناء وجوده في مستوطنة عقوبات الأطفال . و عندما خرج جنييه تنقل في عدة بلدان أوروبية و مارس السرقة و الاجرام و عاشر أرباب السوابق و القتلة و الساقطات و كلها فيما بعد شكلت نماذج حياتية كتب عنها من خلال عبورها في حياته فأغنت أدبه .
كتب جينيه عن عذاباته في السجن و فضح العنصرية و الهمجية و بقي يفتك به شعوره بالظلم و القهر فانقلب الى متمرد على مجتمعه بأجمعه و لازمته طوال حياته قوة الرفض لواقع حياته و نشأته ولم يشعر قط بالصلح مع واقعه و ذاته …
يذكرني ذلك بمقولة ل جورج لاتكستر : (درجات الشجاعة أن تجرؤ على الظهور على حقيقتك فهي خير مثال على سيرة جينيه الذاتية ).
عاش جينيه بغربة و ألم عميق فالجدران لم تقدم الاحساس بالأمان و الدفء بل أن احتكاكه بالبشر زاد احساسا بالتعذيب و بشاعة الحياة فأطلق صرته المشهورة : ( اني وحيد في هذا العالم أريد أن أنتمي الى الطحالب كي أبتعد عن البشر … و يتابع اني أكره المجتمع و ابغضه لأنه عاملني بقسوة و منذ أن كنت طفلا في معهد الأيتام و المدرسة الاصلاحية كما وصفتها في روايتي معجزة الوردة ( علمتني الحياة أشياء و منذ ذلك الحين وجدت لي مخرجا في العمل الأدبي و اتخذت كراهيتي شيئا اّخر ) .
حول جينيه يأسه و تمرده الى انتصار شعري فنجح في لفظ غضبه و معاناته و خرج الانسان بداخله جميلا مدافعا عن الظلم و الألم ، كان جان كوكتو أول من اكتشف جينيه ثم توطدت علاقته بجان بول سارتر و قد جمعهما عشق الحرية و الاحترام لأدبه فكانا نعم السند له حين حكم عليه بالسجن مدى الحياة لاقترافه عدة جرائم سرقة فمنح العفو الرئاسي . بعدها تخلى جينيه عن فكرة الجريمة نهائيا و تبنى الموقف الراديكالي و بدأ مدافعا عن الظلم و العنصرية و متعاونا مع منظمة النمور السود ثم انتقل الى مناصرة القضية الفلسطينية أما ما اشتهر به جينيه فهو اغناؤه مجال الجريمة و تحويله الجبن و الخداع الى فضائل لاهوتيه و رفضه للمذهب المادي.
انتقل جينيه من فن الرواية الى المسرح حيث تصور معظم مسرحياته كراهيته للطبقة الحاكمة و الآلام التي يعاني منها المحكمون و لعل خير ما تحدث عن جينيه هي سيرته الذاتية ( يوميات لص ) و رواية ( سيدتنا ذات الأزهار ) و معجزة الزهرة ( و طقوس الجنازة ) .
كتب جان بول سارتر عن جينيه كتابه ( القديس جينيه الممثل و الشهيد ) . حاول فيه أن يزودنا بوعي انطولوجي و تحليلات سايكولوجية عن جينيه اثرت في مجمل مستقبله الادبي.
لم يعش جينيه بعيدا عن انسانيته بل واجه قتامة العالم و علاقته به بفعل احتجاج و أسئلة كبرى لم يجد فيها الا جروحات دامية و لكنها الحقيقة و أراني أرى في الحقيقة بواكير عافية.
هنادة الحصري