الملحق الثقافي:رنا محمد :
لم تكُ حوادث السير، هي الفكرة الوحيدة التي أربكّ القدر بها البشر، لكنها بالنسبة لي كانت الفكرة الأكثر رعباً وغموضاً، كونها محتملة الحدوث بأيّ لحظةٍ، ومع أيّ شخص.
ربما كنت دون الثلاث سنوات، حين بدأت الكلام عن ابنتي التي توفيت في حادثِ سيرٍ مرعب، بعضهم قال خيال الطفل الذي يتخيّل الكثير من الأحاديث والأشياء، وبعضهم قال :إن ذلك لحقني من الحيوات السابقة إلى هذه الحياة، وكأن حياة واحدة من الأحزان غير كافية للبشر.
ذلك غير مهمّ.. المهم أن فكرة الحوادث بحدِّ ذاتها، كانت رعبي منذ طفولتي، وكانت عائلتي سعيدة بهذا الوعي المبكر، والانتباه الشديد في عبور الشارع.
في طرقاتِ السفر، كنت أتفادى مخاوفَ الطريق بالانشغال بالقراءة، أو الاستسلام للموسيقا، كان نوعاً من الهروب من الكارثة المحتملة، والتحليق في الحلم الجميل.
هي محتملة في كلّ مكان، ولكنها باتت محتملة أكثر في شوارعٍ غير جيدة كشوارع مدننا، وأقول في نفسي: كيف يمكن للبشر أن نتفادى هكذا كوارث! والذي ترك الشارع بهذا السوء، ألا يخاف على من يحبّ من كارثةٍ محتملة؟..
وكعادتنا في مدننا المنكوبة، يكاد لا يمرُّ يوم إلا ونسمع فيه حوادثَ سير أودت بأصحابها أو أذتهم أذيّات بالغة.. الناس في هذه البلاد لقمة سائغة في فكِّ الموت والخوف.. من الحروب إلى الأمراض والأوبئة، وليس انتهاءً بحوادث السير.
ولأني لا أستطيع إصلاح الكون، سعيتُ ما أمكنني للانتباه، ووجّهت أطفالي بعدد لا متناه من الوصايا والتنبيهات، أثناء عبورهم الشارع.
لم أتخيّل يوماً أن أصبح وأطفالي، فريسة سهلة أمام سيرفيس ظهر لنا مسرعاً وبشكلٍ مفاجئ، في شارعٍ ضيق باتّجاهين.. رأيت الخطر أمامي، فسارعتُ لاحتضان أطفالي، وكان لابدّ من الاصطدام رغم محاولات السائق الكبيرة بالتوقّف وتفادي الأمر، لكن القدر كان أسرع منّا جميعاً.
في هذه اللحظة، توقف عندي الزمان وانعدم المكان، كان صوت الاصطدام أقوى من كلّ شيء، وصراخي يملأ المكان ويجمع البشر على الحادث، لم تكن الدماء التي ضمختني هي ما يؤلمني، بل صراخ أطفالي وألمهم.. وجعكَ يؤلم مكانه، ولكن وجع الابن يؤلم قلبك.
مرّت لحظاتٌ طويلة وعصيبة، إلى أن وصلنا المشفى، بحثتُ بين الوجوه التي لا أعرفها عن وجوهٍ أحبها، تحمل معي مصيبتي، غرباء في كلّ مكان، وأنا وأطفالي يضعوننا في غرف التصوير الشعاعي ويعقمون جروحنا.. لكنَّ جرح الروح، من عساه يستطيع تعقيمه أو خياطته؟.
اليوم وبعد مضي فترة على الحادثة لا أزال أرتعب كلّما تذكرتها، ولا زلت لا أستطيع النزول إلى الشارع أو عبوره، هو الرضُّ النفسي الذي يحتاج كي يُشفى، لزمنٍ أطول من الرضِّ الجسدي، جرح الروح أقسى وأشدّ إيلاماً من جرح الجسد.
بدأتُ أستعيد تفاصيل الحادثة، وأتخيل الخطر في تلك اللحظة، وأفكر بألطافِ القدر.. أتذكر أطفال الحروب في كلّ بلداننا العربية الحزينة، أيّ قلوب تلك التي تحملها الأمهات، لتحمي أبناءها من الحروب ونيرانها؟.
أيّ أقدارٍ كتبت لنا ـ نحن الأمهات ـ في كلّ بلداننا العربية، لنعيش في كلّ لحظة، مهمة ردّ القضاء والقدر عن أبنائنا؟.
هي فكرةٌ مستحيلة بكلّ تأكيد، والتسليم والانتباه والإيمان هو الخيار الأفضل للجسد والروح.
التاريخ: الثلاثاء1-6-2021
رقم العدد :1048