ما بعد القمة الروسية -الأميركية في جنيف، ينبغي توجيه الأنظار نحو السلوك الأميركي إزاء العديد من الملفات الدولية الساخنة في المرحلة القادمة كمقياس لمعرفة مدى نجاح القمة لجهة التعاون حول إرساء الاستقرار الاستراتيجي العالمي، باعتبار أن الولايات المتحدة هي المسبب الأول لكل ما يعانيه العالم اليوم من أزمات وحروب، وهي تتحمل المسؤولية الأكبر في إزالة التشوهات التي أصابت مسار العلاقات الدولية.
القمة بحسب تقديرات الرئيسين الروسي والأميركي كانت إيجابية، ولكن من المؤكد أن ما تم التوافق عليه حول عدد من القضايا الثنائية أو الدولية، ليس بالضرورة أن يترجم إلى أرض الواقع في المنظور القريب، لأنه خاضع لمعايير الالتزام، قبل حاجته لترتيبات معينة تحددها مخرجات الحوار اللاحقة بين مسؤولي البلدين، فالقمة مهدت الطريق نحو هذا الحوار، وربما نجحت في تثبيط مستوى التصادم والتصعيد في هذه المرحلة، ولكن هذا لا يعني أن لا تنقلب الأمور مجدداً، لاسيما أن الولايات المتحدة تعمل ما بوسعها لتبقى متزعمة العالم، وتحارب بكل قوتها كي تمنع روسيا وحلفائها من تثبيت قواعد نظام عالمي متعدد الأقطاب، وهذا يفرض على قادتها الاستمرار بسياسة المناورة للعبث بالاستقرار الدولي.
الوضع في سورية كان من بين الملفات التي ناقشتها قمة جنيف حسب تأكيد الكرملين، وربما ما أشار إليه مسؤول رفيع بإدارة بايدن وفقاً لبيان الخارجية الأميركية بأن “توسيع المعابر الإنسانية” هو شرط للتعاون مع روسيا، يكون مقياساً لآلية تفكير هذه الإدارة بالإبقاء على سياسة الابتزاز التي تنتهجها الولايات المتحدة لتنفيذ أجنداتها العدوانية، فاستغلال الملف الإنساني لتحقيق أهداف سياسية تمس سيادة سورية ووحدة أراضيها، هو في حد ذاته جنوح مسبق نحو الانقلاب على سياسة الحوار، فإذا كان بايدن يرى ضرورة في توسيع “المعابر الإنسانية” لمساعدة السوريين كما يزعم، لماذا يواصل محاصرتهم بـ”قانون قيصر” إذاً؟، ولماذا يواصل نهب نفطهم وثرواتهم؟، ومن أجل ماذا يبقي على قواته المحتلة لأجزاء من أرضهم؟، هو في الواقع يسعى لتكريس واقع الاحتلال، وشرعنة وجود التنظيمات الإرهابية لمنع سورية من إعادة بسط سيطرتها على كامل أراضيها، وهذا بالإضافة إلى أنه يخالف ميثاق القانون الدولي، فإنه يتناقض بالمطلق مع مفهوم الاستقرار الدولي المفترض أن تفضي إليه مخرجات الحوار الروسي- الأميركي.
لاحظنا غداة قمة جنيف تسارع الدعوات الأوروبية -(فرنسا وألمانيا)- لإجراء حوار يصوب العلاقات مع روسيا، وهذه الخطوة دافعها أميركي بحت، لأن الولايات المتحدة دائما تتكئ على أدواتها في لعبة الشطرنج العالمية، ولكن هل يعد ذلك مؤشراً على الجدية الأميركية في التقارب مع روسيا؟، أم مجرد محطة تهدئة تحتاجها واشنطن لإعادة ترتيب أولوياتها على الساحة الدولية؟، لاسيما أنها بحسب الإعلام الأميركي بدأت فعلياً بخفض وجودها العسكري في منطقة الشرق الأوسط بهدف إعادة تنظيم هذا الوجود حول العالم، أو ربما باتت تعي حقيقة بدء اضمحلال دورها وقوتها أمام المتغيرات الحاصلة في موازين القوى العالمية، وإلا ماذا يعني عودة ماكرون للعزف مجدداً على نغمة الاستقلال الدفاعي الأوروبي كبديل للحلف الأطلسي، بعد أيام على قمة “الناتو” في بروكسل، وهي قد شهدت تحريضاً أميركياً واضحاً ضد روسيا والصين؟
بقلم أمين التحرير ناصر منذر