الثورة أون لاين – رنا بدري سلوم:
“فاتحة ديوان “سر نبوءتي” للشاعرة رنا محمود مشهد لغروب الشمس وجزء من خلفية رأس امرأة يرقب هذا الزوال، هل هو زوال أبدي كما يرى المتشائمون أم هو بدء يوم جديد، أم حلم جديد كما يرى المتفائلون، ولنوسع فتحة الفرجار قليلاً: هل هي نبوءة أن تتوقع شيئاً بديهياً يتكرر كل يوم؟ أليس المقدمات ذاتها تؤدي إلى النتائج ذاتها، لكن ما النبوءة؟ أهي الرسالة التي يحملها نبيّ لنقلها وتبليغها للناس بإلهام إلهي؟ أم هي تحليل منطقي للأحداث والوقائع؟ أم هي معرفة الغيب كما يقول العرّافون” تساؤلاتٌ لابد من البحث عن إجابتها في نصوصِ شاعرة تهدي ديوانها “سر نبوءتي” طباعة دار أرواد الذي احتفت بإبصاره النور منذ أيام في ثقافي أبو رمانة إلى أناها والسر الدفين ” لتضعنا في إشكالية هذا الإهداء الذي يشير إلى شيئين: إمّا إلى عدم الثقة بالناس، وإمّا إلى نرجسية عالية وفقاً لما ذكره الأديب سهيل الذيب في دراسة نقدية عن المجموعة بأن الإهداء لا يتناسب مع عقل وفكر الشعر والشاعر بالمطلق، فهما نتاج المجتمع ويصبان فيه، علماَ أن الشاعرة أتت من محافظة اللاذقية وقطعت المسافات البعيدة لتهدي ديوانها لكل من يريده”.
فالكتابة عند محمود أنثى متمردة، الكتابة تشبهها، لتخاطب قراءها: ها أنذا أقدم نفسي من دون رتوش” ” إن صوتي مرسال قلبي فافتحوا له أبواب نوافذكم”. يا لها من رسالة بالغة الصدق والاحترام للذات والمتلقي، فهذه المرأة الطفلة تقدم نفسها بكل شفافية فلنقرأها كما سفحت نفسها على أوراقها المئة والعشرين بسبعةٍ وأربعين نصاً ملوناً “حين شاء أبي أن يرسمني لوحة أنجبتني أمي قصيدة لا تشبهها قصيدة أخرى، فصرت ألوّن الفراشات بألوان الطفولة”.
يتساءل الذيب: صورة عذبة ولو أنها عادت للتركيز على هذه الأنا، والأنا لها فوائد عديدة كمحاولة التميز والارتقاء وهذا واجب وضروري لارتقاء المجتمع، لكن من مضارها أنها تحمل الشر في ذاتها واستعباد الآخر وإقصاؤه، والشاعرة محمود ليست كذلك، فلمَ التركيز على هذه الأنا! ربما هي ردة فعل ليس غير.
تعود محمود في القصيدة الثانية للتعريف عن نفسها بقولها: هذي أنا، السر المدفون والصرخة الثكلى، تمتد أدهاراً. هذي أنا والصلصال يروي حكايتي ويذيع فصولها. العمر الخريف. هذه أنا النخل السماوي فاسمعوا أناشيد الحفيف..
معانِ وبلاغة “كالصرخة الثكلى والعمر الخريف وأناشيد الحفيف والنخل السماوي” عبارات دالة على الوجع الداخلي مرّة حيث يمضي العمر وهي مقبلة عليه تصنع من الصلصال حياة ودالة مرّة أخرى على الشموخ والكبرياء والتحدي. أما القصيدة الطويلة قد وضعت فيها محمود خبرتها الحياتية والثقافية لتعرج أيضاً على أوغاريت إرث الله وصورة الحضارة البهية وعلى بابل وأكاد و أرواد التي تقول فيها:
والبغي يلهبُ ظهرها جلداً
وشرق الوأد
يا للموت!
ما زالت جراحه تصهل
اللافت في نصوص الشاعرة رنا محمود أنها تطوّرت كثيراً عمّا سبق، وهذا يحسب لها، ويؤذن بولادة شاعرة إنسانية حقيقية، بحسب ما قاله الذيب، كقولها:
أنا أنثى حررت نفسي من قيود الزمن
مداي كل هذا الكون
رؤاي الأزرق الممتد
فليس بناقص عقلي ولا حظي ولا ديني
أنا أنثى
وما الإغواء والإغراء
إلا عين النقص فيكم
إلا سر الإثم في خفاياكم
الشعر في مجموعة “سر نبوءتي ” يحرّك الفكر ويجمّل الذائقة الفنية، ويتفاوت المستوى بين نص وآخر وهذا أمر طبيعي بحسب الحالة المتأججة للشاعرة التي يثني على تقدمها الذيب بالقول: إن الشاعرة رنا محمود بدأت مرحلة جديدة من تقدمها في رحاب قصيدة النثر، ولاسيّما قصيدتها الجميلة “أوكسجين الحب” وغيرها من القصائد. وفي العموم يمكن القول إن هذا الديوان حمل بين جناحيه الحب بكل أشكاله ناثراً إياه على الناس كلهم, ويتسم أيضاً بتمرد الشاعرة على المفاهيم والقيم البالية التي تحد من قدرة المرأة على التميز والإبداع، وهي في الوقت ذاته تشن هجومها على أولئك الذين لا يجدون في المرأة سوى جسد للارتواء فقط، وهؤلاء المرضى النفسيون موجودون بكثرة بيننا مع الأسف الشديد، أضف إلى ذلك فإن الشاعرة في هذا الديوان حالمة في تحقيق كل ما تريده بالإرادة والعزيمة والصبر.
لكن اللافت أننا لم نجد أي نبوءة خارج منظومة العقل البشري إلّا إن قصدت الشاعرة أنها بتحليلها الفكري والمنطقي للأشياء يجعلها تسمي ذلك نبوءة، “والتنبؤ في كثير من الأحيان دراسة الواقع وإطلاق حكم مستقبلي عليه كأن نقول مثلاً إنّ رنا محمود سيكون لها شأن في المستقبل، وهذا الحكم أطلقناه بناء على ما بين أيدينا من فكر وشعر” وفقاً لما ذكره الذيب في خاتمة دراسته النقدية.