سورية المستقبل وفق رؤية منهجية

بعد خطاب القسم الذي ألقاه السيد الرئيس بشار الأسد في بداية ولاية دستورية جديدة يمكننا طرح بعض الأفكار في تصور أولي واستراتيجي لسورية، ويعد ذلك مسودة أولية نحو رؤية مستقبلية لسورية، وهي قابلة لتطويرها باستمرار بناءً على إضافات واقتراحات أوسع شريحة من المجتمع السوري والنخب الفكرية والسياسية، ويتم ذلك في إطار مشروع بدائل الخروج من الأزمة الحالية استناداً إلى المنهجيات العلمية المتعارف عليها، وتركز هذه الرؤيا على القيم والمبادئ العليا التي يتفق عليها السوريون كأساس لمستقبلهم المرغوب، ولا تتضمن شكل المؤسسات واستراتيجيات الوصول لهذه الرؤية.

إن الاتفاق على الرؤية بمفهومها القيمي والإنساني يقود إلى تشكيل أرضية لإطلاق عملية بناء المستقبل المرغوب، وتشكل أساساً متيناً لتقييم الخطوات اللاحقة بما فيها كيفية الخروج من الأزمة الحالية.

أولاً:

الرؤيا إنسان سوري ممكَن معرفياً وأخلاقياً، متحرر من الجهل والفقر والغرائز والاستبداد والاستغلال، ضمن مجتمع حيوي حضاري منسجم، محترماً شخصية الإنسان ومحققاً كرامته، معززاً القيم الفكرية والأخلاقية النبيلة يطورها باستمرار، متمتعاً بثقافة غنية خلاقة ذات بعد إنساني، منفتحاً على الآخر، مستفيداً من تراثه لتحقيق نهضته، مساهماً بشكل فعال في الحضارة الإنسانية مادياً وفكرياً، معززاً للاكتساب والإنتاج العلمي والتقني كماً وكيفاً، قادراً على تكوين وتنظيم مؤسسات حرة وشفافة وفعالة، وتشاركية ومساءلة وضامنة لحقوق المواطنة وواجباتها، وللعدالة في بناء القدرات والفرص، مطلقاً حريات الفكر والإبداع ، مستثمراً لإمكانياته في بناء اقتصاد قادر على حمل استحقاقات الرفاه والعدالة والتنمية، محافظاً على استدامة البيئة، ضامناً للحرية والعدالة الاجتماعية وحقوق الأجيال القادمة.

ثانياً:

منطلقات الرؤيا إن ثنائية العقل والأخلاق هي نواة سورية المستقبل، ويحتاج ذلك إلى إنسان متحرر من التخلف والإقصاء والتهميش ضمن مجتمع متنوَر ومؤسسات فاعلة لتكون أساس النهضة المرجوة، كما يحتاج أيضاً إلى التحرر من التفاوت العالمي من خلال بناء تحالف حضاري مع الدول التي تشارك المجتمع السوري قيمه وحلمه بهدف كسر العلاقات والسياسات الدولية الجائرة والانتهازية، المنطلق الأول: الإنسان السوري جوهر المستقبل الحضاري المنشود هو الإنسان من خلال احترام شخصيته وحقوقه وكرامته وحريته، ويكون الإنسان الغاية والوسيلة في آن معاً.

وشخصية الإنسان التي تميزه مرتبطة بقدرته العقلية والروحية وثقافته ضمن المجتمع الذي يعيش فيه، يكون الإنسان في سورية ممكَناً من خلال توفير الصحة والتعليم ومستويات المعيشة الملاءمة وتوفير الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما في ذلك عدالة توفير الفرص بما يعزز كرامة الإنسان، والعدالة المطلوبة تتضمن بعدين رئيسيين:

البعد الأول مناصرة الفئات المحرومة والمهمشة من خلال الاستثمار في الإنسان وخلق فرص إبداعية للتعلم والعمل والاندماج في العلاقات الاجتماعية والإنتاج الحضاري.

أما البعد الثاني فيتضمن توفير إمكانيات بناء القدرات وتوفير الفرص للجميع دون استثناء، وحماية حق الجميع في الحياة الكريمة والصحة المديدة والتنمية التضمينية وفرص العمل اللائقة، وتعزيز قدرتهم على قيامهم فعلاً بممارسة هذه الحقوق من خلال الفرص المتاحة.

المنطلق الثاني:

المجتمع السوري، يتجسد هذا المنطلق في قيمة احترام الآخر، وهي سمة أخلاقية رفيعة تمثل الجانب الإنساني الذي يمكَن من تفاعل حضاري ضمن التنوع الثقافي الغني للمجتمع، فيخرج بثقافة متلاقحة جديدة إبداعية تعكس نسيج سورية المعقد والمتداخل بما يغني رأس المال الاجتماعي وييسر عملية بناء العقد الاجتماعي المطلوب للمستقبل، إن الحوار المجتمعي المبني على احترام الآخر يطور المجتمع ويعزز قيم الحرية والإبداع والعمل ويقلص فرص الاستبداد والجهل، ويعرفنا بأنفسنا وبهويتنا.

إن الأولوية هي للتفاعل الحضاري ضمن المجتمع السوري فبدونه سيصبح الحوار مع المجتمعات الأخرى من دون جدوى. ضمن المجتمع السوري تعد العقلانية أحد أهم أركان النهوض بعد عهود من التخلف وضحالة الإنتاج المعرفي وغيابنا عن المساهمة الحضارية الإنسانية.

إن احترام العقل وتنميته والاستثمار به يعد الخطوة الأهم في مسيرة تحرير الإنسان من خلال وظيفتين رئيسيتين: الأولى هي السيطرة على الطبيعة واستثمار مواردها مع المحافظة على استدامتها ـ وهذه أحد نقاط تميز الحضارة المعاصرة التي تقدمت أشواطاً كبيرة في مجال التحكم بالظروف المناخية واستثمار الموارد الطبيعية والبشرية في عمليات الإنتاج، الأمر الذي تراكم ثروات غير مسبوقة تعد أرضية رئيسية لتمويل النشاط الإنساني والاجتماعي والثقافي المطلوب.

أما الوظيفة الثانية فهي الإنتاج والاكتساب العلمي كماً ونوعاً فتمكين الإنسان علمياً ومعرفياً يعتمد على استخدام العقل و يكون مصدراً رئيسياً للتطور في كافة المجالات، وهذا يحتاج إلى نظم تربوية وتعليمية متقدمة وجامعات ومراكز بحوث احترافية، كما يتطلب توفير الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتمثَل القيم الأخلاقية السامية.

المؤسسات في سورية المستقبل، التي تحدد القواعد الناظمة لأنشطة الأفراد والجماعات، هي الضامن لمشروع النهضة، حيث تقوم المؤسسات على أساس اتفاق مشترك على الرؤيا المستقبلية وأسسها وعلى العقد الاجتماعي، ويتم ذلك من خلال المؤسسات الرسمية وغير الرسمية عبر ترجمة الرؤيا المشتركة للمجتمع إلى بيئة توفر الإمكانات والفرص المرجوة.

ومؤسسات سورية المستقبل تطلق الإمكانات المادية والبشرية للمجتمع من خلال تمتعها بالكفاءة في معرفة احتياجات المجتمع وأهدافه ومحاولة تحقيقها بأفضل الوسائل، كما تتمتع بالشفافية والمساءلة حتى لا تنحرف عن الصالح العام إلى المصالح الشخصية أو الأداء المتدني، ويتم ضمن هذه المؤسسات وضع الأهداف والخطط وتحديد الاحتياجات وصناعة السياسات والتنفيذ بمشاركة الجميع، إن الدولة كمؤسسة محورية في سورية تتبنى التنمية الإنسانية وتلعب دوراً فاعلاً في توفير المناخ الفكري والإبداعي والحياة الكريمة والتمكين والعدالة الاجتماعية والحريات العامة والرفاه المادي والقيم الأخلاقية السامية.

إذ إن التحدي الحضاري الكبير بحاجة إلى تنظيم عال ومؤسسات احترافية يحكمها خدمة الصالح العام وقيم وأهداف المجتمع والعقلانية في ترجمة الطموحات إلى خطط وسياسات عملية قابلة للتنفيذ، يلعب المجتمع المدني دوراً كبيراً من خلال المشاركة الفعالة لجميع أبناء المجتمع في تحقيق الرؤيا من خلال تطوير الحوار المجتمعي والدفاع عن مصالح الأفراد والجماعات وتعزيز التفاعل الثقافي المتنوع، وقيم احترام الآخر والعقلانية والإنتاج المعرفي، رأس المال الاجتماعي من خلال مؤسساته المستثمرة في الثقة بين أفراد المجتمع وفي قيم التضامن والانسجام بين الجميع في سبيل خدمة الصالح العام.

والمجتمع المدني الحيوي هو ضمير النهضة ومساند ومتابع للسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، مساهماً في تصحيح مسارها، مركزاً على أهمية العقل والفكر واحترام الإنسان والعدالة الاجتماعية والأخلاق النبيلة في كل الأوقات، التنمية المادية في سورية تستثمر الإمكانيات وتعظم الفائدة منها في سبيل خدمة الإنسان من خلال التركيز على المعرفة والابتكار كمصدر مستدام لها، ما يتطلب استثماراً في رأس المال البشري والاجتماعي والثقافي، وبما أن الفكر الإنساني هو المصدر الرئيسي لاستدامة التنمية مادياً وإنسانياً، يفترض تمكين وإدماج كافة فئات المجتمع في هذه العملية واستبعاد التفاوت وعدم العدالة. المنطلق الثالث:

سورية والحضارة الإنسانية يتجسد هذا المنطلق في مساهمة المجتمع السوري في الحضارة العالمية، ويرتكز على الإنتاج المادي والعلمي والثقافي والتقني بما يغني الحضارة الإنسانية، إن هذه المساهمة تحتاج إلى منتجات الحضارة الإنسانية من خلال قراءة نقدية واعية للمخزون الهائل من المعارف الذي تم إنتاجه والاستفادة منها في بناء المخزون العلمي والمعرفي والتقني اللازم للتحول إلى شريك أساسي في الحضارة العالمية، مع ضرورة تجاوز مأزق الحضارة الإنسانية بشكل عام والمتمثل في التفاوت الاجتماعي والاقتصادي ضمن الدول وبينها، وانتشار قيم الاستغلال والاستئثار والترويج للغرائز وتفضيل الأولويات الفردية على الجمعية ما يشكل خطراً على مستقبل حضارة الإنسان.

كما يتطلب الإسهام في الحضارة العالمية التحرر من التحكم والسيطرة الجائرة للدول الأكثر نفوذاً والدفاع عن استقلال الوطن وتحريره من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، مما يتطلب المساهمة في بناء العقد الاجتماعي الإنساني الذي يطوره الجميع لتمكين المجتمعات وتوفير الفرص العادلة للجميع في التطور والإبداع مع الحفاظ على هوياتها وشخصيتها المميزة.

إن التغيير في العلاقات الإنسانية على المستوى الدولي هو مطلب ملح إذ لا يمكن أن يتحرر إنسان قاطن في بلد مرتهن، ولا شك في أن العلاقات الدولية الحالية -والتي تعد نتيجة لخلل في الثقافة الحديثة السائدة في المجتمعات المتقدمة، في مجالات الاستئثار بالقوة وتعزيز الاستهلاك واستغلال الدول الأضعف والمبالغة في التركيز على الرفاه المادي- ساهمت في التفاوت الكبير بين المجتمعات إنسانياً، ويقتضي قيام تحالفات دولية نحو تمكين الدول المهمشة والمقصاة لتشارك بفاعلية في الحضارة الإنسانية.

في ذات الإطار سورية المستقبل دولة فاعلة في إقليمها الجغرافي والإنساني متفاعلة معه مؤثرة ومتأثرة به، تلعب دور النموذج الثقافي والفكري للمنطقة، رائدة في مجال استثمار المعرفة ومخرجات العلم في خدمة الإنسان، إن التفاعل الثقافي مع بقية دول العالم يعد حجر الزاوية في بناء تحالف له ثقل يسعى إلى عدالة أكثر وإنسانية أسمى في النظام الدولي.

إضاءات د: خلف المفتاح

آخر الأخبار
قمة فوق سوريا... مسيرات تلتقي والشعب يلتقط الصور لكسر جليد خوف التجار..  "تجارة دمشق" تطلق حواراً شفافاً لمرحلة عنوانها التعاون وسيادة القانون من رماد الحروب ونور الأمل... سيدات "حكايا سوريا" يطلقن معرض "ظلال " تراخيص جديدة للمشاريع المتعثرة في حسياء الصناعية مصادرة دراجات محملة بالأحطاب بحمص  البروكار .. هويّة دمشق وتاريخها الأصيل بشار الأسد أمر بقتله.. تحقيق أميركي يكشف معلومات عن تصفية تايس  بحضور رسمي وشعبي  .. افتتاح مشفى "الأمين التخصصي" في أريحا بإدلب جلسة حوارية في إدلب: الإعلام ركيزة أساسية في مسار العدالة الانتقالية سقوط مسيّرة إيرانية بعد اعتراضها من قبل سلاح الجو الإسرائيلي في  السويداء.. تصاعد إصابات المدنيين بريف إدلب تُسلط الضوء على خطر مستمر لمخلفات الحرب من الانغلاق إلى الفوضى الرقمية.. المحتوى التافه يهدد وعي الجيل السوري إزالة التعديات على خط الضخ في عين البيضة بريف القنيطرة  تحسين آليات الرقابة الداخلية بما يعزز جودة التعليم  قطر وفرنسا: الاستقرار في سوريا أمر بالغ الأهمية للمنطقة التراث السوري… ذاكرة حضارية مهددة وواجب إنساني عالمي الأمبيرات في اللاذقية: استثمار رائج يستنزف الجيوب التسويق الالكتروني مجال عمل يحتاج إلى تدريب فرصة للشباب هل يستغلونها؟ تأسيس "مجلس الأعمال الأمريكي السوري" لتعزيز التعاون الاقتصادي بين دمشق وواشنطن تسهيل شراء القمح من الفلاحين في حلب وتدابيرفنية محكمة